SlideShare uma empresa Scribd logo
1 de 33
Baixar para ler offline
‫ّ‬
‫تدبر القرآن الكريم‬
‫حقيقته وأهميته‬

‫يف إصالح الفرد واجملتمع‬
‫أ.د. عبد القادر سليماني.‬
‫جامعة وهران، الجزائر.‬

‫1‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم.‬
‫الحمد هلل والصالة والسالم على حممد بن عبد اهلل، وعلى آله األطهار وأصحابه األبرار، ومن تبعهم بإحسان‬

‫إىل يوم الدين، وبعد:‬

‫ال شك أن القرآن الكرمي، هو كتاب اهلل –تعاىل- ، نزل به الروح األمني على قلب حممد ‪ ‬بلسان عريب‬
‫مبني، ال يأتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه، تنزيل من حكيم محيد، تكفل اهلل حبفظه، وتعبدنا بتالوته وتدبر‬
‫آياته ومعانيه، فقال تعاىل : ﭽﮑﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﭼ محمد: ٢٤.‬
‫مجع اهلل فيه خريي الدنيا واآلخرة، من متسك به جنا، ومن أعرض عنه فقد ضل وخسر، يقول سبحانه وتعاىل:‬
‫ﭽﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺﯻ ﯼﯽ ﯾ‬

‫ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭼ طه: ١٤٣ - ١٤٣.‬
‫وتدبر القرآن الكريم، والوقوف عند معاين آياته وأحكامه، هو من األمور املهمات، وآثاره على مجيع‬
‫املستويات جليات، إن على مستوى األفراد أو على مستوى اجملتمعات، وذلك يف مجيع اجملاالت، كإصالح‬
‫االعتقاد، وتهذيب األخالق، وتشريع األحكام، وتحديد سياسات األمة، التي بها يتم صالحها وحفظ‬
‫نظامها، اقتصاديا، وثقافيا، وصحيا، وتعليميا، واجتماعيا...، كل هذه املعاين وغريها، تدخل ضمن المقاصد‬
‫و‬
‫الجامعة للقرآن الكريم، يف تقومي حياة الناس إىل يوم الدين، قال اهلل تعاىل: ﭽ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬

‫ﭦ ﭧ ﭨﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭼ اإلسراء: ٩.‬
‫وال ريب، أن قيمة القرآن كته، تكمل يف تالوته، وتدبره، والعمل به، فما اللفظ وترتيله إال وسيلة يف إدراك‬
‫وبر‬

‫املعىن وحتصيله، وطلب اخلشوع، والتأثر به، وترمجة هذا التأثر إىل عمل.‬

‫فما مفهوم تدبر القرآن الكريم، وما حقيقته؟ وما أهميته في إصالح الفرد والمجتمع؟‬

‫ولإلجابة عن هذا األسئلة وغريها، ارتأيت أن أقسم البحث إىل متهيد وثالثة مباحث وخامتة، ومجلة من‬
‫التوصيات.‬
‫أما التمهيد: فتناولت فيه تعريف بعض المصطلحات المفتاحية، اليت هلا عالقة باملوضوع، كالتدبر،‬

‫واإلصالح.‬

‫2‬
‫وأما المبحث األول: فبينت فيه أن اإلسالم قد أمر بتدبر القرآن الكريم ورغب فيه، وذلك من خالل‬
‫الكتاب والسنة النبوية.‬
‫وأما المبحث الثاني: فتناولت فيه حقيقة تدبر القرآن الكريم.‬
‫وأما المبحث الثالث: فتناولت فيه أهمية تدبر القرآن الكريم في إصالح الفرد والمجتمع.‬
‫وأما الخاتمة: فذكرت فيها مجلة من النتائج اليت تضمنها هذا البحث، وبعض التوصيات اليت رأيت أهنا تفيد‬
‫موضوع البحث خصوصا، وموضوع املؤمتر عموما.‬
‫واهلل ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل.‬

‫3‬
‫التمهيد:‬
‫التعريف ببعض المصطلحات المفتاحية.‬
‫أوال: تعريف التدبر:‬
‫1-معنى التدبر في اللغة:‬
‫ُّبُر و ُّبْر نقيض القبُل، ودبُر كل شيء عقبُه ومؤخره، ومجعهما أَدبار، ودبُر كل شيء خالف قُبُله، وهو‬
‫ُ‬
‫ْ‬
‫ُُ‬
‫َ ُ َّ ُ‬
‫ُُ‬
‫الد ُ الد ُ‬
‫النظر يف عاقبة األمر والتفكر فيه، وتدبر الكالم: النظر يف أوله وآخره ، مث إعادة النظر مرة بعد مرة ؛ وهلذا جاء‬
‫ع والتفهم والتبني ؛ ولذلك قيل : إنه مشتق من النظر يف أدبار األمور، وهي أواخرها‬
‫على وزن التفعل كالتجر‬
‫وعواقبها، ومنه تدبر القول ،كما يف قوله تعاىل : ﭽ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﭼ‬

‫المؤمنون: ٦٨.‬

‫(1)‬

‫2-معنى تدبر القرآن الكريم:‬

‫هو تفهم معاين ألفاظه ، والتفكر فيما تدل عليه آياته مطابقة ، وما دخل يف ضمنها وما ال تتم تلك املعاين إال‬

‫به، مما مل ج اللفظ على ذكره من اإلشارات والتنبيهات، وانتفاع القلب بذلك خبشوعه عند مواعظه، وخضوعه‬
‫يعر‬
‫ألوامره، وأخذ العربة منه، كل هذه املعاين حاضرة يف أقوال أهل العلم، وعلى رأسهم من املفسرين:‬
‫و‬
‫قال الطبري يف قوله تعاىل : ﭽﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ص: ٩٤ ، " أي‬
‫ليتدبروا حجج اهلل اليت فيه، وما ع اهلل فيه من الشرائع، فيتعظوا ويعملوا به ".‬
‫شر‬

‫(2‬

‫وقال أبو بكر ابن طاهر: " تدبر يف لطائف خطابه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه، وقلبك بفهم معانيه،‬
‫وسرك باإلقبال عليه ".‬
‫َّ‬

‫(‬

‫1- لسان العرب، حممد بن مكرم بن منظور األفريقي املصري ، دار صادر – بريوت، ط1، (د ت)، (4/262)، وخمتار الصحاح،‬
‫زين الدين الرازي (1/691)، والقاموس احمليط، الفريوز آبادي (1/204- 04)، تاج العروس من جواهر القاموس، حممد بن‬
‫حممد بن عبد الرزاق احلسيين، أبو الفيض، امللقب مبرتضى، الزبيدي، (1/6022).‬
‫َّ‬
‫2- تفسري القرآن العظيم، أبو الفداء إمساعيل بن عمر بن كثري القرشي الدمشقي، احملقق:سامي بن حممد سالمة، دار طيبة للنشر‬
‫والتوزيع، ط2، 0241ه - 9991م، (12/091).‬
‫ جلامع ألحكام القرآن، أبو عبد اهلل حممد بن أمحد بن أيب بكر بن ح األنصاري اخلزرجي مشس الدين القرطيب، احملقق: هشام‬‫فر‬
‫مسري البخاري، دار عامل الكتب، الرياض، اململكة العربية السعودية، 241ه - 002م، (91/2 ).‬
‫4‬
‫وقال الهروي: " أبنية الذكر ثالثة: االنتفاع بالعظة، واالستبصار بالعربة، والظفر بثمرة الفكرة ".‬

‫(1‬

‫وقال األلوسي: " وأصل التدبر : التأمل يف أدبار األمور وعواقبها، مث استُعمل يف كل تأمل سواء كان نظرا يف‬

‫حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه ".‬

‫(2‬

‫ويُستفاد من كالم العلماء في معنى التدبر، أن التدبر في القرآن يشمل األمور اآلتية:‬
‫معرفة معاين األلفاظ وما يُراد هبا.‬‫تأمل ما تدل عليه اآلية أو اآليات مما يُفهم من السياق أو كيب اجلمل.‬‫تر‬
‫ُّ‬
‫اعتبار العقل حبججه، وحترك القلب ببشائره وزواجره.‬‫اخلضوع ألوامره، واليقني بأخباره.‬‫ويتلخص من ذلك أن التدبر: هو التفكر، والتأم ل الذي يبلغ به صاحبه معرفة املراد من املعاين، وإمنا يكون‬

‫ذلك يف كالم قليل اللفظ كثري املعاين اليت أُودعت فيه ، حبيث كلما ازداد املتدبر تدبرا، انكشفت له معان مل تكن‬
‫بادية له بادئ النظر.‬

‫(‬

‫ثانيا: تعريف اإلصالح:‬
‫1-اإلصالح لغة:‬

‫الصالح على خالف الفساد، والصالح والصلوح مبعىن واحد، فهو يصلح صالحا وصلوحا، فهو صاحل،‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫(4‬
‫وصليح، واجلمع صلحاء وصلوح.‬
‫ُ‬

‫واإلصالح نقيض اإلفساد واملصلحة الصالح، واالستصالح نقيض االستفساد، وأَصلَح الشيءَ بعد فساده‬
‫ْ‬
‫ْ ْ‬
‫َّ ُ‬
‫َ‬
‫أَقامه، وأَصلَح الدابة أَحسن إليها فَصلَحت، والصلح تَصاحل القوم بينهم، والصلح السلم، وقد اصطَلَحوا وصاحلوا‬
‫ُ‬
‫ُّ‬
‫ُ‬
‫َ َ‬
‫ُّ ُ‬
‫َ‬

‫1- مفتاح دار السعادة ومنثور والية العلم واإلرادة، دار الكتب العلمية، بريوت، (1/ 21).‬
‫2- روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين، حممود األلوسي أبو الفضل، دار إحياء الرتاث العريب-بريوت، (4/051).‬
‫ التحرير والتنوير، حممد الطاهر بن عاشور التونسي، مؤسسة التاريخ العريب، بريوت،ط1، 0241ه ،0002م، ( 2/241).‬‫4- لسان العرب، ابن منظور، (2/615)، التحرير والتنوير، ابن عاشور، (2/212)، والقاموس احمليط (1/122)، والصحاح يف‬
‫اللغة، اجلوهري، (1/ 9 ).‬
‫5‬
‫واصلَحوا وتَصاحلوا واصاحلوا مبعىن واحد، وقوم صلُوح متصاحلُون، كأَهنم وصفوا باملصدر، والصالح بكسر الصاد‬
‫َّ‬
‫ُ ُ‬
‫َّ ُ‬
‫ُ‬
‫مصدر املصاحلة.‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫وقوبل الصالح يف القرآن، تارة بالسيئة، كما يف قوله تعاىل: ﭽﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ‬
‫ﭼ التوبة: ٤٠٣ ، وتارة بالفساد، كما يف قوله تعاىل: ﭽ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭼ‬

‫يونس: ٣٦ ، ومها خمتصان يف أكثر االستعمال باألفعال.‬
‫2-اإلصالح اصطالحا:‬
‫ً‬

‫عرف العلماء الصالح بعدة تعريفات وهي:‬
‫أن الصالح: هو سلوك طريق اهلدى.‬
‫وقيل:هو استقامة احلال على ما يدعو إليه العقل.‬
‫وقيل:هو استقامة احلال على ما يدعو إليه العقل و ع.‬
‫الشر‬
‫وقيل: هو استقامة األعمال وطهارة النفس.‬

‫(1‬

‫التعريف المختار لإلصالح:‬
‫ومن خالل النظر يف هذه التعريفات، جند أهنا متقاربة، وميكن اجلمع بينها بتعريف شامل، وهو: أن الصالح‬
‫سلوك طريق اهلدى، واستقامة احلال على ما يدعو إليه العقل و ع.‬
‫الشر‬
‫والعالقة بني املعىن اللغوي واالصطالحي وثيقة بينهما، حيث يتبني من املعىن االصطالحي أن اهلدف من‬
‫اإلصالح هو استقامة اإلنسان على طريق اهلدى، كما يدعو لذلك العقل و ع، وهذا ما تبني من املعىن‬
‫الشر‬
‫اللغوي.‬

‫المبحث األول:‬
‫األمر بتدبر القرآن الكريم والترغيب فيه،‬
‫من خالل نصوص الكتاب والسنة النبوية.‬
‫ال شك أن النصوص الشرعية، جاءت دالة على االعتناء بالقرآن الكرمي، اعتناء خاصا، بغرض االنقياد حلكمه،‬
‫واإلقبال على أحكامه، واملشي خلفه، من خالل اتباع منهج خاص، يف التعامل مع القرآن الكرمي، تالوة، وتدبرا.‬

‫1- ابن عاشور، املصدر نفسه، ( /001).‬

‫6‬
‫أوال: األمر بالتدبر والترغيب فيه، في ضوء القرآن الكريم:‬
‫ال شك أن القرآن الكرمي، قد أشاد بكل األلفاظ والصيغ اليت جاءت يف إطار التدبر والتأمل، مبا يفيد األمر‬
‫والرتغيب فيه، بلفظ صريح:‬
‫كما يف قوله تعاىل : ﭽﭻ ﭼﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇﮈ ﮉ ﭼ النساء: ٤٦‬

‫وقوله تعاىل : ﭽﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ص: ٩٤.‬
‫وقوله تعاىل : ﭽﮑﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﭼ محمد: ٢٤.‬
‫وقوله تعاىل : ﭽ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﭼ المؤمنون: ٦٨.‬
‫ومعىن ﴿يتدبَّرون القرآن﴾، أي يتأملون داللته، وذلك حيتمل معنيني: أحدمها أن يتأملوا داللة تفاصيل آياته على‬

‫مقاصده اليت أرشد إليها املسلمني، أي تدبر تفاصيله؛ وثانيهما أن يتأملوا داللة مجلة القرآن ببالغته، على أنه من‬
‫عند اهلل، وأن الذي جاء به صادق.‬

‫(1‬

‫وبألفاظ غري صرحية، حتمل يف مضامينها مفهوم التدبر، كالتفقه، والتعقل، والتبصر، والتفكر، والتذكر، وغري‬
‫ذلك من املفردات، والصيغ اليت مفادها التدبر والتأمل يف آيات القرآن الكرمي:‬
‫كقوله تعاىل : ﭽﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢﯣﯤ ﭼ األنعام: ١٨.‬
‫وقوله تعاىل : ﭽﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﭼ النحل: ٤٣.‬
‫وقوله تعاىل : ﭽﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭼ النحل: ٢٢.‬
‫وقوله تعاىل : ﭽ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﭼ الزمر: ٢٤.‬
‫وقد تضمنت هذه اآليات وجوب التدبر، وقد أشار إىل ذلك احلافظ ابن كثير -رمحه اهلل تعاىل- ، حيث قال‬
‫: "يقول تعاىل آمرا عباده بتدبر القرآن، وناهيا هلم عن اإلعراض عنه، وعن تفهم معانيه احملكمة وألفاظه البليغة،‬
‫وخمربا هلم أنه ال اختالف فيه وال اضطراب، وال تضاد وال تعارض؛ ألنه تنزيل من حكيم محيد، فهو حق من‬

‫حق".‬

‫(2‬

‫1- التحرير والتنوير، ابن عاشور، ( / 24).‬
‫2- تفسري ابن كثري (2/46 ).‬
‫7‬
‫كما تضمنت هذه اآليات التوبيخ واإلنكار على من أعرض عن تدبر كتاب اهلل، وقد ذم جل وعال املعرض‬
‫عن هذا القرآن العظيم، يف آيات كثرية، منها قوله تعاىل: ﭽ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﭼ الكهف: ٢١‬

‫، وقوله تعاىل: ﭽﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭼ السجدة: ٤٤.‬
‫ومعلوم أن كل من مل يشتغل بتدبر آيات القرآن العظيم، أي تصفحها وتفهمها، وإدراك معانيها، والعمل هبا،‬
‫فإنه معرض عنها، غير متدبر لها، فيستحق اإلنكار والتوبيخ املذكورين يف اآليات، إن كان اهلل أعطاه فهما يقدر‬
‫ُ‬
‫به على التدبر.‬

‫وقد شكا النيب ‪ ‬إىل ربه من هجران قومه هذا القرآن، كما جاء يف قوله تعاىل : ﭽﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ‬

‫ﯝ ﯞﯟﯠ ﯡ ﭼ الفرقان: ٠١.‬
‫وذكر أهل التفسري: أن ترك تدبره وتفهمه، هو من هجرانه، وترك اإلميان به وتصديقه، والعمل به، وامتثال‬
‫أوامره واجتناب زواجره، هو من هجرانه، والعدول عنه إىل غريه من شعر أو قول أو غناء أو هلو أو كالم أو طريقة‬
‫ُ‬
‫أو منهج مأخوذ من غريه، من أيضا يعترب من هجرانه.‬

‫(1‬

‫ثانيا: األمر بالتدبر والترغيب فيه، في ضوء السنة النبوية، وعمل السلف:‬
‫1-ال شك أن النبي ‪ ، ‬كانت له مع تدبر القرآن الكريم أخالقيات عالية وراقية، سجلتها سريته العطرة‬

‫وسنته الطاهرة ‪ ، ‬كيف ال! وهو القدوة واألسوة احلسنة للبشرية قاطبة وإىل يوم الدين، يف مجيع كاته‬
‫حر‬
‫وسكناته، وباخلصوص يف تعامله مع القرآن، تالوة واستماعا وتدبرا، ومن ذلك:‬
‫ما رواه ع ْبد اللَّه بن مسعود ‪ ‬قَال: قَال ِل النَّيب ‪ ( : ‬اقْ رأْ علَي الْقرآن )، قُ ْلت: آقْ رأُ علَْيك وعلَْيك‬
‫َ َ‬
‫َ َ َّ ُ ْ َ‬
‫َ‬
‫ُ َ َ َ ََ َ‬
‫ُّ‬

‫أُنْزل؟! قَال: ( إين أُحب أَن أَمسَعهُ من غريي ).‬
‫َ‬
‫َ‬
‫ُّ ْ ْ َ ْ َ ْ‬

‫(2‬

‫قال ابن بطال -رمحه اهلل-:"حيتمل أن يكون كي يتدبره ويفهمه، وذلك أن املستمع أقوى".‬

‫(‬

‫1- ابن كثري، املصدر نفسه، (6/201) ، وجامع البيان يف تأويل القرآن، حممد بن جرير بن يزيد بن كثري بن غالب اآلملي، أبو‬
‫جعفر الطربي، احملقق:أمحد حممد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 0241ه -0002م،(91/462)، وتفسري القرطيب ( 1/22)،‬
‫معامل التنزيل، أبو حممد احلسني بن مسعود البغوي، احملقق:حققه ج أحاديثه حممد عبد اهلل النمر-عثمان مجعة ضمريية-‬
‫وخر‬
‫سليمان مسلم احلرش، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2141،4 ه -2991م، (6/22).‬
‫2- رواه البخاري يف صحيحه (ح:1664، 51/224).‬
‫ ح صحيح البخاري ، أبو احلسن علي بن خلف بن عبد امللك بن بطال البكري القرطيب، حتقيق: أبو متيم ياسر بن إبراهيم‬‫شر‬
‫مكتبة الرشد، الرياض، ط2، 241ه - 002م، (01/222).‬
‫8‬
‫ما رواه أبو ذر ‪ ، ‬قال: قَام الَّبي ‪ ، ‬حّت أَصَح، بآيَة، واآليَ ُ ﭽ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ‬‫َْ ة‬
‫َ ن‬
‫َ َّ ْ ب َ‬

‫ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﭼ المائدة: ٦٣٣.‬

‫(1‬

‫( )‬

‫-وعن جندب، بلغه عن حذيفة أو مسعه عن النبي ‪": ‬ذكر ناسا يقرءون القرآن، ينثرونه نثر الدقل 2 ،‬

‫يتأولونه على غري تأويله".‬

‫( )‬

‫َّ‬
‫قال المبار كفوري:" أي يرمون بكلماته من غري روية وتأمل،كما يرمى الدقَل، بفتحتني، وهو رديء التمر، فإنه‬

‫لرداءته ال حيفظ، ويلقى منثورا ...وقال النووي: معناه أن قوما يقرأون، وليس حظهم من القرآن إال مروره على‬
‫اللسان، فال جياوز تراقيهم ليصل قلوهبم، وليس ذلك هو املطلوب، بل المطلوب تعقله وتدبره، بوقوعه في‬
‫القلب".‬

‫(4)‬

‫- وعن عائشة أنه ذُكر هلا أن ناسا يقرؤون القرآن يف الليل مرة أو مرتني، فقالت: أولئك قرؤوا ومل يقرؤوا، كنت‬

‫أقوم مع النبي ‪ ‬ليلة التمام، فكان يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء، فال مير بآية فيها ختوف إال دعا اهلل‬
‫واستعاذ، وال مير بآية فيها استبشار إال دعا اهلل ورغب إليه.‬

‫(5)‬

‫قال الصنعاني :"احلديث دليل على أنه ينبغي للقارئ يف الصالة تدبر ما يقرؤه، وسؤال رمحته واالستعاذة من‬
‫عذابه".‬

‫(6)‬

‫وعن أبي هريرة ‪ ‬عن النيب ‪ ‬قال: (...وما اجتمع قوم يف بيت من بيوت اهلل، يتلون كتاب اهلل،‬‫ويتدارسونه بينهم، إال نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرمحة، وحفتهم املالئكة، وذكرهم اهلل فيمن عنده... ).‬

‫(2)‬

‫1- رواه يف السنن، ابن ماجة، (ح:04 1، 4/162)، والنسائي (ح:0001، 4/221)، وأمحد يف مسنده (ح:56 02،‬
‫4، 1 )، املستدرك على الصحيحني، حممد بن عبداهلل أبو عبداهلل احلاكم النيسابوري، حتقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار‬
‫الكتب العلمية، بريوت، ط1، 1141ه -0991م، (ح:542، 2/104)، وقال:صحيح ومل خيرجاه، ووافقه الذهيب، وصححه‬
‫األلباين يف مشكاة املصابيح، (5021).‬
‫َّ‬
‫2- والدقَل: الرديء اليابس من التمر، واملراد أن القارئ يرمي بكلمات القرآن من غري رؤية وتأمل،كما يتساقط الدقل من العذق‬
‫إذا هز، أنظر: النهاية يف غريب احلديث واألثر، أبو السعادات املبارك بن حممد اجلزري، حتقيق : طاهر أمحد الزاوي - حممود حممد‬
‫ُ‬
‫الطناحي، املكتبة العلمية- بريوت، 99 1ه -9291م، (2/992)، واللسان، البن منظور (11/642).‬
‫ األحاديث املرفوعة من التاريخ الكبري، للبخاري، (ح:452، 2/652).‬‫4- حتفة األحوذي ح جامع الرتمذي، حممد عبد الرمحن بن عبد الرحيم املبار كفوري أبو العال، دار الكتب العلمية، بريوت،‬
‫بشر‬
‫( /221).‬
‫5- رواه أمحد يف مسنده، (ح:264 2، 05/421).‬
‫6- سبل السالم، حممد بن إمساعيل األمري الكحالين الصنعاين، مكتبة مصطفى البايب احلليب، ط4، 92 1ه -0691م.‬
‫2- رواه مسلم يف صحيحه (ح:2624، 1/212).‬
‫9‬
‫واملعىن أهنم يقرؤون كتاب اهلل، سواء أكانت هذه القراءة بأن يقوم شخص ويقرأ ويفسر أو غريه يفسر، أم أهنم‬
‫جيتمعون حبيث يقرأ واحد منهم مقدارا من القرآن ويستمع الباقون، ويكون هناك شخص يصوب قراءته ويبني ما‬
‫(1)‬

‫عليه من مالحظات، كل ذلك يدخل حتت التدارس، كذلك تأمل ما فيه، ومعرفةُ ما فيه، وتدبر ما فيه.‬
‫و‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫( )‬
‫وعن أبي وائل، قَال: جاءَ رجل إىل ابْن مسعُود، فَقال: قَرأْت الْمفصل اللَّْي لَةَ يف كعة، فَقال: هذا 2 كهذ‬‫َ َ َُ َ‬
‫َْ‬
‫رْ َ َ َ َ ًّ َ َ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫َ َ َ ُ ُ َ َّ َ‬
‫الشعر، لَقد عرفْت النَّظَائر الَّيت كان النَّبي ‪ ‬يَقرن بَْي نَ هن، فَذكر عشرين سورة من الْمفصل، سورتَني يف كل‬
‫َ َ‬
‫ُ‬
‫ْ ُ ُ ُ َّ َ َ َ ْ َ ُ َ ْ ُ َ َّ ُ َ ْ‬
‫ْ َ ْ ََ ُ‬
‫َ‬
‫( )‬
‫كعة".‬
‫رْ َ‬
‫َ‬
‫قال النووي:"إن هذا كان قدر قراءته ‪ ‬غالبا، وأن تطويله الوارد، إمنا كان يف التدبر والترتيل".‬

‫(4)‬

‫(5)‬

‫وقال العيني:"ويستفاد منه النهي عن الهذ، وفيه احلث على الترسل والتدبر، وبه قال مجهور العلماء".‬
‫ُّ‬

‫وقال الحافظ ابن حجر:"ويف هذا احلَديث من الْفوائد، كراهةُ اإلفْ راط في سرعة التالوة ؛ ألَنَّهُ يُنَافي‬
‫َ ََ ْ‬
‫ُْ َ َ َ‬
‫ْ ََ‬
‫ََ َ ْ َ‬
‫الْمطْلُوب من التَّدبر والتَّ فكر يف معاين الْقرآن، وفيه أن الترتيل أفضل من الهذ ؛ إذ ال يصح التدبر مع‬
‫َ َ ْ َ َ َ‬
‫َ َ ُْ‬

‫اهلذ".‬

‫(6‬

‫َ ُّ‬
‫وعن أنَس ‪ ، ‬أنَّهُ سئل عن قراءَةُ النَّبى ‪ ، ‬فَقال:كان ميد م ًّا، مثَّ قَرأَ : ﴿بسم اللَّه الرمحَن الرحيم﴾، ميُد‬‫َّ ْ َّ‬
‫ُ‬
‫ْ‬
‫َ َ َ َ َد ُ َ‬
‫َ‬
‫(2‬
‫ببسم اللَّه، وميُد بالرمحَن، وميُد بالرحيم".‬
‫َ َ ُّ َّ ْ َ َ ُّ َّ‬
‫ْ‬
‫2‬

‫قال ابن بطال:" فكان يقرؤه على مهل ؛ ليبني ألمته كيف يقرؤون، كيف يمكنهم تدبر القرآن وفهمه".‬
‫و‬
‫وعن أَبي ع ْبد الرحمن السلمي، قال:ح َّثَنَا الَّذين كانُوا يُقرئُونَنَا الْقرآن، عُثْمان بْن عفان وع ْبد اللَّه بْن‬‫َد‬
‫َ َ‬
‫ْ‬
‫ََ ُ‬
‫َ َّ ْ َ‬
‫ُ‬
‫ُْ َ َ ُ ُ‬
‫َ‬
‫مسعُود، أَنَّهم قَالُوا:"كنَّا إذا تَعلَّمنَا من النَّبي ‪ ‬عشر آيَات، ملْ جنَاوزها حّت نَتَ علَّم ما فيها من الْع ْلم والْعمل"،‬
‫َْ‬
‫َ ُ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ْ‬
‫ُ َ َْ ْ‬
‫ُْ‬
‫َ ََ‬
‫َ َْ‬
‫1‬
‫قَالُوا:"فَتَ علَّمنَا الْق ْرآن والْع ْلم والْعمل مجيعا".‬
‫َ ْ ُ َ َ َ َ ََ َ َ‬
‫1- حتفة األحوذي، املبار كفوري أبو العال، (2/512-612).‬
‫َّ‬
‫2- وقوله"هذا":بفْتح اهلَاء وتَشديد الذال الْمعجمة، أَي سردا وإفْ راطا يف الس ْرعة، أنظر فتح الباري، احلافظ ابن حجر‬
‫َ ْ َ ْ‬
‫ُّ َ‬
‫ُْ ََ‬
‫ْ َْ َ َ‬
‫( /151)، وقال ابن رجب احلنبلي:"هو متابعة القراءة يف سرعة، كرهه ابن مسعود ملا فيه من قلة التدبر ملا يقرءوه"، أنظر فتح‬
‫و‬
‫الباري ح صحي ح البخاري، زين الدين أيب ج عبد الرمحن ابن شهاب الدين البغدادي مث الدمشقي الشهري بابن رجب، دار‬
‫الفر‬
‫شر‬
‫ابن اجلوزي– السعودية، الدمام- 2241ه ، (4/224).‬
‫الطبعة : الثانية ، حتقيق : أبو معاذ طارق بن عوض اهلل بن حممد‬
‫ متفق عليه، رواه البخاري يف صحيحه، (ح: 22، /4 2)، ومسلم يف صحيحه، (ح:16 1، 4/262).‬‫4- ح صحيح مسلم، النووي، (6/501).‬
‫شر‬
‫5- عمدة القاري ح صحيح البخاري، بدر الدين العيين احلنفي، (9/612).‬
‫شر‬
‫6- فتح الباري، احلافظ ابن حجر ( /151).‬
‫2-رواه البخاري يف صحيح، (ح:2564، 51/664).‬
‫2- ح صحيح البخاري، البن بطال، (91/16 ).‬
‫شر‬
‫01‬
‫أي: أهنم كانوا يتعلمون العلم والعمل مجيعا، فيكونون بذلك قد مجعوا بني العلم والفقه، وبني معرفة أحكامه وما‬
‫اشتمل عليه، فيجمعون العلم والعمل، وال شك أن ذلك ال يكون إال بالتدبر والتأمل والفهم.‬

‫2‬

‫وعن ابن عباس يف قوله تعاىل : ﭽ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭼ القيامة: ٨٣ ، كان رسول اهلل ‪ ‬إذا نزل‬‫جربيل بالوحي، كان مما حيرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه" .‬
‫و‬
‫وفيه دليل على وجوب ترتيل القراءة والرتسل فيها من غري هذرمة وال سرعة مفرطة، بل بتأمل وتفكر وتدبر،‬
‫َ َْ‬

‫قال اهلل تعاىل: ﭽﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ص: ٩٤.‬

‫4‬

‫2-وهذه بعض أخبار وأحوال السلف مع تدبر القرآن:‬
‫فكما سجل لنا التاريخ اإلسالمي، حياة النيب ‪ ‬مع تدبر القرآن، فقد سجل لنا أيضا وقفات وأحواال‬
‫وأخبارا، لسلفنا الصالح، مع تدبر القرآن، ومن ذلك:‬
‫ما روي عن مسروق قال: قال ِل رجل من أهل مكة : هذا مقام أخيك متيم الداري، لقد رأيته ذات ليلة حّت‬
‫أصبح، أو قَرب أن يصبح يقرأ بآية من القرآن كع فيها ويسجد ويبكي ﭽ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ‬
‫ير‬
‫َُ‬

‫ﯦ ﯧ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﭼ الجاثية: ٣٤.‬

‫5‬

‫وعن أبي حمزة -رمحه اهلل- : قلت البن عباس ‪ : ‬إين سريع القراءة، أقرأ القرآن يف مقام، فقال ابن عباس‬
‫رضي اهلل عنهما-:"ألن أقرأ البقرة فأرتلها وأتدبَّرها أحب إِل من أن أقرأ القرآن كما تقول"، ويف رواية: "ألن أقرأ‬‫البقرة يف ليلة أتدبرها وأفكر فيها أحب إِل من أن أقرأ القرآن كله يف ليلة".‬

‫6‬

‫وعن أبي وائل قال: جاء رجل إىل عبد اهلل، فقال: إين قرأت املفصل البارحة، فقال عبد اهلل: هذا كهذ الشعر،‬
‫ونثرا كنثر الدقل، إين أفصل لتفصلوه، ولقد علمت النظائر اليت كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقرأ سورتني‬
‫يف كعة".‬
‫ر‬

‫2‬

‫1- جمموع الفتاوى، تقي الدين أبو العباس أمحد بن عبد احلليم بن تيمية احلراين، احملقق: أنور الباز-عامر اجلزار، دار الوفاء،‬
‫ط ، 6241ه -5002م، (1/ 0 ).‬
‫2- ح سنن أيب داود، عبد احملسن العباد، (21/201).‬
‫شر‬
‫ أخرجه البخاري برقم (9294) 6/ 61 ، ومسلم برقم (244) 1/0 .‬‫4- تفسري ابن كثري، (1/22).‬
‫5- املعجم الكبري، الطرباين، (ح:6 21، 2/14)، والزهد أليب داود، (ح:92 ، 1/214).‬
‫6- خمتصر قيام الليل، حملمد بن نصر املروزي، (1/512).‬
‫2- شعب اإلميان، أبو بكر البيهقي، دار الكتب العلمية، بريوت، ط41، 0141ه .‬
‫11‬
‫وعن سعيد بن عبيد قال: رأيت سعيد بن جبير، وهو يؤمهم يف رمضان، يردد هذه اآلية : ﭽ ﮖ ﮗ ﮘ‬

‫ﮙﮚﮛ ﮜ ﭼ غافر: ٣٢ ، وﭽﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭼ االنفطار: ٨ ، يرددها‬
‫1‬
‫مرتني أو ثالثا".‬
‫وروي عن محمد بن كعب القرظي ‪ ‬يقول : " ألن أقرأ ﴿إذَا زلْزلَت﴾ و﴿الْقارعةُ﴾ ليلة أرددمها وأتفكر‬
‫ُ‬
‫َ َ‬
‫ُ‬
‫2‬
‫ُّ‬
‫فيهما، أحب إِل من أن أبيت أهذ القرآن".‬
‫َّ‬
‫وسئل مجاهد عن رجلني قرأ أحدمها البقرة، وقرأ اآلخر البقرة وآل عمران، فكان كوعهما وسجودمها وجلوسهما‬
‫ر‬
‫سواء، أيهما أفضل ؟ قال الذي قرأ البقرة، مث قرأ جماهد : ﭽ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬
‫)‬

‫ﭼ اإلسراء: ٨٠٣ ، واآلثار يف شأن السلف مع تدبر القرآن الكرمي كثرية، نكتفي هبذه اإلملاحة اليسرية.‬
‫وقال الحسن بن علي -رضي اهلل عنهما- :" إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من رهبم فكانوا يتدبروهنا‬

‫بالليل ، ويتفقدوهنا يف النهار".‬

‫4‬

‫وقال عبد اهلل بن عمرو: " لقد عشنا دهرا طويال، وإن أحدنا يؤتى اإلميان قبل القرآن، فتنزل السورة على حممد‬

‫‪ ، ‬فنتعلم حالهلا وحرامها وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها ، مث لقد رأيت رجاال يؤتى أحدهم‬
‫القرآن قبل اإلميان، فيقرأ ما بني فاحتة الكتاب إىل خامتته، ال يدري ما آمره وال زاجره وما ينبغي أن يقف عنده‬
‫منه، ينثره نثر الدقل".‬

‫5‬

‫وقال النووي -رمحه اهلل- ، يف اإلرشاد إىل تدبر القرآن، عما كان عليه من أحوال السلف:‬
‫"وقد كانت للسلف عادات خمتلفة فيما يقرءون كل يوم، حبسب أحواهلم وأفهامهم ووظائفهم، فكان بعضهم‬

‫خيتم القرآن يف كل شهر، وبعضهم يف عشرين يوما، وبعضهم يف عشرة أيام، وبعضهم أو أكثرهم يف سبعة، كثري‬
‫و‬
‫منهم يف ثالثة...والمختار أنه يستكثر منه ما ميكنه الدوام عليه، وال يعتاد إال ما يغلب على ظنه الدوام عليه، يف‬
‫حال نشاطه وغريه، هذا إذا مل تكن له وظائف عامة أو خاصة، يتعطل بإكثار القرآن عنها، فإن كانت له وظيفة‬
‫1- رواه عبد الرزاق يف مصنفه (ح:6914، 2/294).‬
‫2- رواه ابن أيب شيبة يف مصنفه، (ح:9، 2/204).‬
‫ رواه ابن أيب شيبة يف مصنفه، (ح:21، 2/ 04).‬‫4- إحياء علوم الدين، حممد بن حممد الغزاِل أبو حامد، دار املعرفة، بريوت، (1/522).‬
‫5- املستدرك على الصحيحني ج1/ص19 (101)، سنن البيهقي الكربى ج /ص021( 205) .‬
‫21‬
‫عامة كوالية وتعليم وحنو ذلك، فليوظف لنفسه قراءة ميكنه احملافظة عليها، مع نشاطه وغريه، من غري إخالل‬
‫1‬
‫بشيء من كمال تلك الوظيفة، وعلى هذا حيمل ما جاء عن السلف".‬
‫ُ‬

‫وجملة القول: فهذه اآليات القرآنية، والنصوص الحديثية، وما ثبت من ذلك يف وقائع سير السلف‬

‫الصالح، يدل على أن تدبر القرآن، وتفهمه، وتعلمه، والعمل به، أمر استُقر عليه يف القرون الثالثة األولى‬
‫املشهود هلا باخلريية، وهو ال بد منه للمسلمين يف كل زمان ومكان، وأن ثواب قراءة الرتتيل والتدبر أجل وأرفع‬
‫ُّ ُ‬

‫قدرا.‬

‫2‬

‫وقد بني النبي ‪ ‬أن املشتغلني بذلك، هم خير الناس، كما ثبت عنه ‪ ‬من حديث عثمان ‪ ‬أنه قال:‬
‫" كم من تعلم القرآن وعلمه" ، وقال تعاىل : ﭽ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ‬
‫خير‬

‫ﮆﮇ ﮈﮉ‬

‫ﮊ ﮋ ﭼ آل عمران: ٩٢.‬
‫فإعراض كثري من الناس عن التدبر في كتاب اهلل –تعالى- ، والنظر فيه، وتفهمه، والعمل به، وبالسنة الثابتة‬

‫املبينة له، يف مجيع اجملاالت احليوية، اجتماعيا، واقتصاديا، وتربويا، وثقافيا، وسياسيا، وما إىل ذلك من األمور اليت‬
‫حتتاج إليها األمة، أفرادا ومجاعات، هو من أعظم املناكر وأشنعها، وإن ظن فاعلوه أهنم على هدى، باتباعهم‬
‫4‬
‫مناهج غربية علمانية مستوردة، واهلل املستعان.‬

‫1- ح صحيح مسلم، للنووي، (4/021).‬
‫شر‬
‫2-زاد املعاد يف هدي خري العباد، مشس الدين ابن قيم اجلوزية، مؤسسة الرسالة، بريوت-مكتبة املنار اإلسالمية، الكويت،‬
‫ط22، 5141ه /4991م.‬
‫ رواه البخاري يف صحيحه (ح:9 64، 51/9 4).‬‫4- أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن، حممد األمني بن حممد املختار بن عبد القادر اجلكين الشنقيطي، دار الفكر، بريوت،‬
‫5141ه - 5991م، (2/25 ).‬
‫31‬
‫المبحث الثاني:‬
‫حقيقة تدبر القرآن الكريم.‬
‫ال شك أن الواجب، لبلوغ حقيقة1 التدبر، على من خصه اهلل حبفظ كتابه، أن يتلوه حق تالوته، ويتدبر‬
‫َ‬
‫2‬
‫حقائق عبارته، ويتفهم عجائبه، ويتبني غرائبه.‬
‫أوال: تكمن حقيقة التدبر يف الحقائق املرجوة واملقصودة منه، وتتمثل أصال يف بيان مراد اهلل –تعالى- من إنزاله‬
‫القرآن الكرمي، وقد تقدمت النصوص يف ذلك ، واملتتبع لآليات اخلاصة هبذا الشأن، وأخص بالذكر آيات البيان‬
‫وآيات التدبر، تتجلى لديه حقيقة التدبر األساسية، اليت تكشف لنا عن حكمتين من حكم إنزال القرآن على‬
‫َ‬
‫النيب ‪ ، ‬كما بني أهل العلم خلفا وسلفا:‬

‫الحكمة األولى: أن اهلل ‪ ‬أنزل القرآن على نبيه ‪ ، ‬ليبين للناس ما نُزل إليهم يف هذا الكتاب، من‬
‫األحكام الشرعية، والوعد والوعيد، وحنو ذلك.‬
‫ومن اآليات يف هذا الشأن، قوله تعاىل : ﭽ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬
‫ﭼ وقوله: ﭽ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﭼ النحل:‬

‫٢٨.‬

‫4‬

‫والحكمة الثانية: هي التدبر والتفكر يف آيات اهلل واالتعاظ هبا، والتأمل يف أحكامها ومقاصدها، والعمل مبا‬
‫جاء فيها تقربا إىل رضى اهلل –تعاىل-.‬

‫1- احلَقيقةُ ما يصري إليه حق األمر ووجوبُه، وبلغ حقيقةَ األمر أي يَقني شأنه، وهي الثبات واالستقرار والقطع واليقني وخمالفة‬
‫َ ُّ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫اجملاز، وتتناقض احلقيقة مع الكذب والغلط والوهم والظن والشك والتخمني والرأي واالعتقاد والباطل، ويف احلديث:"ال يبلُغ املؤمن‬
‫حقيقةَ اإلميان حّت ال يَعيب مسلما بعْيب هو فيه"، يعين خالص اإلميان وحمضه كْن هه، أنظر لسان العرب (حقق)، (01/94)،‬
‫َْ َ وُ َ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫وغريب احلديث البن األثري (1/5101).‬
‫2-تفسري القرطيب، 1/2.‬
‫ انظر املبحث األول: األمر والرتغيب يف تدبر القرآن، من الكتاب والسنة، ص:6، من هذا البحث.‬‫4- أضواء البيان، حممد األمني الشنقيطي، ( /01)، وتفسري القرطيب، (01/901)، وفتح القدير اجلامع بني فين الرواية والدراية‬
‫من علم التفسري، حممد بن علي بن حممد كاين (املتوىف:0521ه )، (4/ 22).‬
‫الشو‬
‫41‬
‫ومن اآليات يف هذا الشأن، قوله تعاىل : ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ص:‬

‫٩٤ ، وقوله : ﭽ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﭼ النساء: ٤٦ ، وقوله:‬
‫﴿أَفَالَ يَتَدبَّرون القرآن أَم على قُلُوب أَقْ فاهلَآ﴾، حممد- 42، إىل غري ذلك من اآليات.‬
‫َُ‬
‫َ ُ َ‬
‫ْ‬

‫1‬

‫وعليه، فإن قوله تعاىل : ﴿ليَدبَّروا﴾ متعلق ب قوله تعاىل : ﴿أَنزلْنَاهُ﴾، واملراد أنزلناه ليدبروا آياته ؛ وذلك‬
‫َ‬
‫َّ ُ‬
‫بغرض استخراج حقائق أسرار التكوين والتشريع، ومضمون هذه املعاين يشري إىل الغاية والمقصود من إنزال‬
‫القرآن، فلم ينزله اهلل –تعاىل- ليتباهى الناس به، ويتمارى به القراء، دون اعتناء مبضمونه، واستخراج ملكنونه،‬
‫وأخذ مبراده ومطلوبه ، بل أنزله لتدبر آياته، والتفكر والنظر فيها، ومن مث العمل به مجلة وتفصيال، حبيث يتخذ‬
‫دستوراً ومنهجاً، يسريون عليه ويرجعون إليه، وحيتكمون إىل تعاليمه وآياته ؛ لقوله تعاىل : ﭽ ﮚ ﮛ ﮜ‬

‫ﮝﮞﮟ ﭼ المائدة: ٦٢.‬

‫ولن حيصل ذلك إال بتدبر آياته وفهم عباراته، والوقوف على مقصود اهلل -سبحانه وتعاىل- من كتابه، وملا‬
‫كان حصول املقصود من إنزال القرآن الكرمي ال يتم إال بالتدبر هلذا الكتاب الكرمي ، أمر اهلل بذلك فقال :‬
‫﴿ليدبروا آيَاته﴾، ومعناه : ليتفكروا فيها، فيقفوا على ما فيه ويعملوا به، وهذه أسمى حقائق تدبر القرآن.‬
‫ويف هذا السياق يقول السعدي -رمحه اهلل- مبينا حقيقة التدبر، وما ترمي إليه هذه العبارة من الخير والفوائد:‬
‫"يأمر تعاىل بتدبر كتابه، وهو التأمل يف معانيه، وحتديق الفكر فيه، ويف مبادئه وعواقبه، ولوازمه، ذلك ألن تدبر‬

‫كتاب اهلل مفتاح للعلوم واملعارف، وبه يُستنتج كل خري وتُ ج منه مجيع العلوم، وبه يزداد اإلميان يف القلب‬
‫ستخر‬
‫وترسخ شجرته، فإنه يعرف بالرب املعبود، وما له من صفات الكمال؛ وما ينزه عنه من مسات النقص، ويعرف‬
‫الطريق املوصلة إليه وصفة أهلها، وما هلم عند القدوم عليه، ويعرف العدو الذي هو العدو على احلقيقة، والطريق‬
‫2‬
‫املوصلة إىل العذاب، وصفة أهلها، وما هلم عند وجود أسباب العقاب.‬
‫ومن حقائق تدبر القرآن، أنه كلما ازداد العبد تأمال فيه، ازداد علما وعمال وبصيرة وإيمانا ؛ لذلك أمر اهلل‬
‫بذلك، وحث عليه، وأخرب أنه هو املقصود بإنزال القرآن، كما قال تعاىل : ﭽﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ‬

‫1- حممد األمني الشنقيطي، املصدر نفسه، ( /01)، والتحرير والتنوير، ابن عاشور، (2/25).‬
‫2- تيسري الكرمي الرمحن يف تفسري كالم املنان، عبد الرمحن بن ناصر بن عبد اهلل السعدي (املتوىف:62 1ه )، احملقق:عبد الرمحن‬
‫بن معال اللوحيق، مؤسسة الرسالة، ط1، 0241ه -0002م، (1/921).‬
‫51‬
‫ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ص: ٩٤ ، وقال تعاىل : ﭽ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﭼ محمد:‬

‫٢٤.‬
‫ثانيا:ومن خالل عملية التدبر، تتجلى حقائق وفوائد نفيسة، ومن بينها:‬
‫أن العبد يصل بالتدبر إىل حقيقة اليقين والعلم بأن القرآن كالم اهلل ؛ ألنه يراه يصدق بعضه بعضا، ويوافق‬‫بعضه بعضا، فرتى احلكم والقصة واإلخبارات تعاد يف القرآن يف عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، ال ينقض‬
‫بعضها بعضا، فبذلك يعلم كمال القرآن، وأنه من عند من أحاط علمه جبميع األمور ؛ فلذلك قال تعاىل: ﭽﭻ‬

‫ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﭼ النساء: ٤٦ ، أي: فلما كان من عند اهلل مل‬
‫يكن فيه اختالف أصال.‬

‫1‬

‫كما أن حقيقة تدبر القرآن تكشف لنا عن المعنى الحقيقي للدين اإلسالمي، وعالقته بترقية األمة حنو‬‫األحسن واألجود واألتقن ، يف مجيع اجملاالت احليوية املتعلقة حبياة الناس، فعملية التدبر للقرآن الكرمي، يف كلياته‬

‫وجزئياته، ويف أصوله وفروعه.‬

‫كما تفيدنا أن الدين هو ما كلف اهلل به األمة من جمموع العقائد، واألعمال، والشرائع، والنظم.‬‫-وأن إكمال الدين يف قوله تعاىل : ﭽ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﭼ‬

‫المائدة: ١ ، هو إكمال البيان املراد هلل –تعاىل- ، الذي اقتضت احلكمة تنجيمه، فكان بعد نزول أحكام‬
‫االعتقاد، اليت ال يسع املسلمني جهلها، وبعد تفاصيل أحكام قواعد اإلسالم اليت آخرها احلج بالقول والفعل،‬
‫وبعد بيان شرائع املعامالت، وأصول النظام اإلسالمي، كان بعد ذلك كله قد ت البيان املراد هلل تعاىل يف قوله :‬
‫ﭽﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭼ النحل: ٩٦ ، وقوله: ﴿لتُبَ ين للنَّاس‬
‫َ‬

‫ما نُزل إلَْيهم﴾، النحل-44، حبيث صار جمموع التشريع احلاصل بالقرآن والسنة، كافيا يف هدي األمة يف‬
‫َ َ‬
‫ْ‬
‫عبادهتا، ومعاملتها، وسياستها، يف سائر عصورها، حبسب ما تدعو إليه حاجاهتا، فقد كان الدين وافيا يف كل‬
‫وقت، مبا حيتاجه املسلمون.‬

‫2‬

‫1- السعدي، املصدر نفسه، (1/921).‬
‫2- التحرير والتنوير، ابن عاشور، (4/ 1).‬
‫61‬
‫ثالثا: أن حقيقة تدبر القرآن تتضمن بيان وحتديد مظاهر اإلعجاز:‬
‫ذلك أن من تَدبر القرآن وجد فيه من وجوه اإلعجاز فنونا ظاهرة وخفية، من حيث اللفظ ومن جهة املعىن‬

‫قال اهلل –تعاىل- : ﭽ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﭼ هود: ٣ ، فأُحكمت ألفاظه،‬
‫1‬
‫وفُصلت معانيه أو بالعكس على اخلالف، فكل من لفظه ومعناه فصيح ال جيارى وال يداىن.‬
‫1- فقد أخرب عن مغيبات ماضية وآتية، كانت ووقعت، طبق ما أخرب سواء بسواء.‬

‫-وأمر بكل خير، وهنى عن كل شر،كما قال: ﭽ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ‬

‫ﯗ ﯘ ﭼ األنعام: ١٣٣ ، أي:صدقا يف األخبار وعدال يف األحكام، فكله حق وصدق وعدل وهدى، ليس‬
‫فيه جمازفة وال كذب وال افرتاء، كما يوجد يف أشعار العرب وغريهم من األكاذيب واجملازفات، اليت ال حيسن‬
‫شعرهم إال هبا، وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البالغة، عند من يعرف ذلك تفصيال وإمجاال، ممن‬
‫فهم كالم العرب وتصاريف التعبري، فإنه إن تأملت أخباره وجدهتا يف غاية احلالوة، سواء كانت مبسوطة أو‬
‫وجيزة، وسواء تكررت أم ال، كلما تكرر حالَ وعالَ، ال خيلق عن كثرة الرد، وال ميل منه العلماء، كما جاء يف‬
‫و‬
‫َ‬
‫احلديث:" هو الذي ال تزيغ به األهواء، وال تلتبس به األلسنة، وال يشبع منه العلماء، وال خيْلق على كثرة الرد، وال‬
‫َ‬
‫2‬
‫تنقضي عجائبه".‬
‫ع ؛ لقوله تعاىل: ﭽ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ‬
‫2- وإن أخذ يف الوعيد والتهديد، جاء منه ما تقشعر له اجلبال وتتصد‬

‫ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﭼ الحشر: ٣٤ ، فما‬
‫ظنك بالقلوب الرهيفات.‬
‫وإن وعد، أتى مبا يفتح القلوب واآلذان، ويشوق إىل دار السالم، وجماورة عرش الرمحن، كما قال يف الرتغيب‬‫ْ ََ‬

‫: ﭽ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﭼ السجدة: ٢٣ ، وقال: ﭽﯚ ﯛﯜ‬

‫ﯝ ﯞﯟﯠ ﯡ ﯢﯣﯤ ﯥﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭼ الزخرف: ٣٢.‬
‫وقال يف الترهيب: ﭽ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭼ‬‫اإلسراء: ٦٨ ، وقوله تعاىل : ﭽ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ‬

‫ﮇﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﭼ الملك: ٨٣ - ٢٣.‬
‫وقال يف الزجر: ﭽﭠ ﭡﭢﭣ ﭼ العنكبوت: ٠٢.‬‫1- تفسري ابن كثري، (1/991).‬
‫2-رواه الرتمذي يف سننه (ح:6092، 5/221)، قال أبو عيسى: هذا حديث ال نعرفه إال من هذا الوجه وإسناده جمهول ويف‬
‫احلارث مقال، وضعفه قال الشيخ األلباين، ضعيف الرتمذي (6092).‬
‫71‬
‫-وقال يف الوعظ: ﭽ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ‬

‫ﭗ ﭼ الشعراء: ١٠٤ - ٢٠٤ ، إىل غري ذلك من أنواع الفصاحة والبالغة واحلالوة.‬
‫ وإن جاءت اآليات يف األحكام واألوامر والنواهي، اشتملت على األمر بكل معروف حسن ونافع وطيب‬‫َ‬

‫حمبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دينء ؛ كما قال ابن مسعود وغريه من السلف : إذا مسعت اهلل –تعاىل-‬
‫يقول يف القرآن : ﴿يَا أَيُّها الَّذين آمنُوا﴾، فأوعها مسعك فإنه خري ما يأمر به أو شر ينهى عنه1 ؛ وهلذا قال تعاىل‬
‫َ‬
‫َ َ‬
‫: ﭽﮀﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ‬

‫ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﭼ األعراف: ٢١٣.‬
‫4- إن جاءت اآليات يف وصف المعاد، وما فيه من األهوال، ويف وصف الجنة والنار، وما أعد اهلل فيهما‬

‫ألوليائه وأعدائه من النعيم واجلحيم واملالذ والعذاب األليم، بشرت به وحذرت وأنذرت؛ ودعت إىل فعل اخلريات‬
‫واجتناب املنكرات، وزهدت يف الدنيا، ورغبت يف األخرى، وثبَّتت على الطريقة املثلى، وهدت إىل صراط اهلل‬
‫املستقيم وشرعه القومي، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم.‬

‫(2‬

‫5- كما أن حقيقة تدبر القرآن، تكشف لنا عن الدالالت املعرفة باهلل –تعاىل- ، وعبادته حق العبادة.‬
‫والدالالت على سعة رمحته، وجزيل فضله، ووجوب شكره، كمال قدرته، وعظيم سلطانه، وسعة ملكه،‬
‫و‬

‫وعموم خلقه جلميع األشياء.‬

‫واتصافه بالحمد على كل ما اتصف به من الصفات الكاملة، وما فعله من األفعال احلسنة، ومتام ربوبيته،‬

‫وانفراده فيها.‬

‫وأن مجيع التدبير يف العامل العلوي والسفلي، يف ماضي األوقات وحاضرها ومستقبلها بيد اهلل –تعالى- ، ليس‬
‫ألحد من األمر شيء، وال من القدرة شيء.‬
‫فينتج من ذلك أنه تعاىل هو المألوه المعبود وحده، الذي ال يستحق أحد من العبودية شيئا، كما مل يستحق‬
‫من الربوبية شيئا.‬
‫وينتج من ذلك امتالء القلوب بمعرفة اهلل –تعالى- وحمبته وخوفه ورجائه.‬

‫1- تفسري ابن كثري، (1/002).‬
‫2- ابن كثري، املصدر نفسه، (1/002-102).‬
‫81‬
‫وهذان األمران : أي معرفته وعبادته، مها من أعظم الحقائق اليت يُتوصل هبا عن طريق التدبر، ومها اللذان‬
‫خلق اهلل اخللق ألجلهما، ومها الغاية املقصودة منه تعاىل لعباده، ومها املوصالن إىل كل خري وفالح وصالح،‬
‫وسعادة دنيوية وأخروية، ومها اللذان أشرف عطايا الكرمي لعباده، ومها أشرف اللذات على اإلطالق، ومها اللذان‬
‫إن فاتا، فات كل خري، وحضر كل شر، فنسأله تعاىل أن ميأل قلوبنا مبعرفته وحمبته، وأن جيعل كاتنا الباطنة‬
‫حر‬
‫1‬
‫والظاهرة، خالصة لوجهه، تابعة ألمره، إنه ال يتعاظمه سؤال، وال حيفيه نوال.‬

‫المبحث الثالث:‬
‫أهمية تدبر القرآن الكريم في إصالح الفرد والمجتمع.‬
‫ال شك أن منة اهلداية إىل احلق أعظم املنن ؛ ألن هبا صالح المجتمع وسالمة أفراده، من اعتداء قويهم على‬
‫ُ‬

‫ضعيفهم ، ولوال اهلداية لكانت نعمة اإلجياد خمتلة أو مضمحلة، وأن املراد باحلق الدين، وهو اإلميان واألعمال‬
‫الصاحلة، وأصوله وهي االعتقاد الصحيح.‬
‫واملعلوم أن التشريع ابتُدئ بالنهي عن عبادة غري اهلل ؛ ألن ذلك هو أصل اإلصالح؛ وال ريب أن إصالح‬
‫المعتقد وإصالح الفكر، مقدم على إصالح العمل ؛ إذ ال يشاق العقل إىل طلب الصاحلات إال إذ كان‬

‫صالحا2، وهذا ما يُعرف يف عصرنا مبصطلح األمن الفكري والعقدي، ويف احلديث الصحيح : " أال وإن يف‬
‫اجلسد مضغة إذا صلحت صلح اجلسد كله، وإذا فسدت فسد اجلسد كله، أال وهي القلب".‬
‫ومبا أن اإلنسان هو حمور البناء، ومرتكز الوجود احلضاري، فإن إصالحه يتحقق وفق القيم احملددة يف الكتاب‬
‫والسنة، املؤسسة على منهج االستخالف الذي يتضمن التكليف بإعمار األرض بما هو أحسن وأنفع وأتقن،‬
‫َّ‬
‫ُ‬
‫ال يتم إال بتدبر القرآن، الذي هو عنصر أساسي يف صناعة التميز الروحي واملادي ؛ لبلوغ اخلريية اليت ذكرها اهلل‬
‫‪ ‬يف كتابه اجمليد، حيث قال تعاىل: ﭽ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ‬

‫ﭨ ﭩﭪ ﭼ آل عمران: ٠٣٣.‬

‫1- تفسري السعدي، املصدر السابق، (1/142).‬
‫2- التحرير والتنوير، ابن عاشور، (41/45).‬
‫ متفق عليه من حديث النعمان بن بشري، رواه البخاري (ح:05، 1/09)، ومسلم (ح:6992، 2/092).‬‫91‬
‫أي أن هذه األمة هي خري األمم، واملنتمون إليها هم أنفع الناس للناس ؛ حيث إهنم يأمرون باملعروف، وهو ما‬
‫عُرف حسنه شرعا وعقال، وينهون عن املنكر، وهو ما عُرف قُبحه شرعا وعقال، ويصدقون باهلل تصديقا جازما،‬
‫ُ‬
‫1‬
‫يؤيده العمل الصاحل.‬
‫أوال: أهمية تدبر القرآن واالعتناء به، يف ترقية الفرد والمجتمع:‬
‫ال ريب أن احلياة مع كتاب الله نعمة كها من أنعم اهلل هبا عليه، وما أسعد اإلنسان إذا جعل هذا الكتاب‬
‫يدر‬
‫إمامه، وهذا شأن املسلم، فاهتدى هبديه بعد أن تدبر آياته، وما أسعد اجملتمع الذي جيمع مثل هذا الفرد، وما‬
‫أشد بؤس الذين حرموا أنفسهم من هدايته، فخبطوا يف حياهتم مينة ويسرة، وانتهوا إىل ضياع أعمارهم وضياع‬
‫دنياهم وآخرهتم : ﴿قُل هل نُنَبئُكم باألَخسرين أَعماال الَّذين ضل سعيُهم يف احلَيَاة ُّنْيَا وهم حيسبُون أَنَّهم‬
‫ْ الد َ ُ ْ َْ َ َ ُ ْ‬
‫َ َ َّ َ ْ ُ ْ‬
‫ْ َ ْ ُ ْ ْ ْ َ َ َْ‬
‫حيسنُون صْنعا أُولَئك الَّذين كفروا بآيَات رهبم ولقائه فَحبطَت أَعماهلُم فَال نُقيم هلُم يَوم الْقيَامة وزنا﴾،الكهف،‬
‫َ ْ ََ‬
‫َ ْ ْ َ ُ ْ َ ُ َ ْ ْ َ َ َْ‬
‫ُْ َ ُ‬
‫َ َ َ َُ‬
‫01-501.(2)‬
‫وإن أكثر األوقات كة تلك اليت تُقضى مع هذا الكتاب الكرمي ؛ إذ يعيش اإلنسان مع كالم ربه ‪، ‬‬
‫بر‬
‫فيحس أنه يناجيه، فريتقي مقامه، ويشعر بالعناية اإلهلية حتيط به وترعاه، وتأخذ بيده إىل حيث سعادته وفالحه.‬
‫حيس عندئذ هذا األثر العميق للقرآن يف حياة الفرد واألمة ، مّت كت عمن تتلقى وماذا عليها بعد التلقي ،‬
‫أدر‬
‫يقف على أسرار هذا الكتاب الكرمي، بعد تدبر وتفكر وتأمل، وهو يصوغ تلك النفوس صياغة جديدة جعلت‬
‫منهم، أفرادا وجماعات، مناذج فريدة متميزة يف تاريخ البشرية الطويل.( )‬
‫ً‬
‫مث يدرك من يعيش مع كتاب اهلل عُمق اخلطر يف دعاوى الذين يتبعون أهواءهم، باتباع مناهج وثقافات علمانية‬

‫وغربية، تتعارض مع أصول ثقافتنا العربية واإلسالمية، تلك الدعاوى اليت تريد أن تقطع صلة األمة بكتاب رهبا‬
‫‪ ، ‬فتنسلخ عن مصدر اهلداية لتُغرق يف التيه والضياع(4)، قال اهلل : ﴿واتْل علَْيهم نَبَأَ الَّذي آتَْي نَاهُ آيَاتنَا‬
‫َ ُ َ ْ‬
‫َ‬
‫فَانسلَخ مْن ها فَأَتْ بَ عهُ َّيطَان فَكان من الْغَاوين﴾،األعراف-521.‬
‫َ َ َ‬
‫َ‬
‫َ الشْ ُ َ َ َ‬

‫1 - حممد بن أمحد أبو عبد اهلل القرطيب، تفسري القرآن العظيم، حتقيق أمحد بن عبد العليم الربدوين،ط2، دار الشعب القاهرة،‬
‫22 1ه ،(4/ 21)؛ وابن كثري،أبو الفداء إمساعيل بن كثري الدمشقي،تفسري القرآن العظيم،دار الفكر،(در،دت)،(1/09)‬
‫2- معامل التنزيل، أبو حممد احلسني بن مسعود البغوي، (ت:615 ه )، حققه ج أحاديثه حممد عبد اهلل النمر، وعثمان مجعة‬
‫وخر‬
‫ضمريية، وسليمان مسلم احلرش، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط4، 2141 ه -2991م، (1/5).‬
‫ مقدمة تفسري البغوي، (1/5).‬‫4- البغوي، املصدر نفسه، (1/5).‬
‫02‬
‫ومن هنا ندرك أهمية تدبر القرآن واالعتناء به، يف ترقية الفرد والمجتمع، وآثاره االجيابية اليت تنعكس عليهما،‬
‫يف جمال إصالح أحواهلم االجتماعية واالقتصادية والثقافية والرتبوية، وما إىل ذلك من األمور احليوية واملهمة يف‬
‫حياة الناس.‬
‫ثانيا:تدبر القرآن ومفهوم اإلصالح في الرؤية اإلسالمية:‬
‫ال شك أن مفهوم اإلصالح يف الرؤية اإلسالمية، هو العودة للفطرة البشرية اليت خلق اهلل الناس عليها، قال‬
‫تعاىل : ﴿فطْرة اللَّه الَّيت فَطَر النَّاس علَْي ها ال تَْبديل خلَْلق اللَّه﴾، الروم-0 ، والعودة لدينه، وهلدي نبيه ‪ ، ‬قال‬
‫َ َ َ َ َ‬
‫ََ‬
‫َ‬
‫تعاىل : ﴿ذَلك الدين الْقيم﴾، الروم-0 ، وما عدا ذلك فهو الفساد، وإن كان ظاهره الصالح، ففي اإلرشاد‬
‫َ‬
‫ُ َُ‬
‫1‬
‫إىل الصالح والكمال، مناء ملا أودع اهلل يف النفوس من اخلري يف الفطرة.( )‬
‫وال شك أن هذا الصالح، ينشأ عنه تواصل يف األجيال ؛ ألن االستقامة يف اآلباء دوام االستقامة يف النسل،‬
‫ألن النسل مْنسل من ذوات األصول ، فهو ينقل ما فيها من األحوال اخللقية واخلُلُقية، وملا كان النسل منسالَ من‬
‫َ‬
‫ُ َ‬
‫الذكر واألنثى ، كان حبكم الطبع حمصال على جمموع من احلالتني ، فإن استوت احلالتان أو تقاربتا، جاء النسل‬
‫على أحوال مساوية املظاهر ألحوال سلفه.(2)‬
‫واإلصالح مهمة األنبياء واملرسلني ، والدعاة إىل اهلل واملخلصني ، كما جاء على لسان شعيب ‪ ، ‬يف قوله‬
‫تعاىل : ﴿إن أُريد إالَّ اإلصالَح ما استَطَعت﴾، هود-22، أي: ليس ِل من املقاصد إال أن تصلح أحوالكم،‬
‫ْ ُ‬
‫ْ َ َ ْ ْ ُ‬
‫وتستقيم منافعكم.‬

‫وهذا اإلصالح شامل للدين والدنيا واآلخرة، كما جاء عن أبي هريرة ‪ ‬قال:كان رسول اهلل‪ ‬يقول : (‬
‫اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي اليت فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي اليت فيها‬
‫معادي...).( )‬
‫قال المناوي رمحه اهلل يف ح هذا احلديث:‬
‫شر‬
‫1- التحرير والتنوير، ابن عاشور، املصدر السابق، (2/44).‬
‫2- ابن عاشور، املصدر السابق، (2/242).‬
‫ رواه مسلم يف صحيحه (ح:2924، 1/942).‬‫12‬
‫"(اللهم اصلح ِل ديين الذي هو عصمة أمري) ، أي الذي هو حافظ جلميع أموري، فإن من فسد دينه فسدت‬
‫أموره، وخاب وخسر.‬
‫(وأصلح ِل دنياي اليت فيها معاشي)، أي بإعطاء الكفاف فيما حيتاج إليه ، كونه حالال معينا على الطاعة.‬
‫و‬
‫(وأصلح ِل آخريت اليت فيها معادي)، أي ما أعود إليه يوم القيامة، قال الطييب: إصالح املعاد، اللطف والتوفيق‬
‫على طاعة اهلل وعبادته، وطلب الراحة باملوت، فجمع يف هذه الثالثة: صالح الدين والدنيا واملعاد، وهي أصول‬
‫مكارم األخالق".(1)‬
‫وقد تقدم، أن معىن "أصلَح" أي فَعل الصالح، وهو الطاعة هلل فيما أمر وهنى ؛ ألن اهلل ما أراد بشرعه إال‬
‫َ‬
‫ََ‬
‫إصالح الناس يف دينهم ودنياهم وأخراهم، وهي الحكمة من إنزال القرآن الكرمي ؛ ليتدبر الناس آياته،‬
‫فيستخرجوا علمها، ويتأملوا أسرارها وحكمها ، وال يكون ذلك إال بالتدبر فيها والتأمل ملعانيها، وإعادة الفكر‬
‫فيها مرة بعد مرة، تُدرك كة القرآن وخريه، فهو مفتاح للعلوم واملعارف، وبه يُستنتج كل خري، وتُ ج منه مجيع‬
‫ستخر‬
‫بر‬
‫العلوم الدينية والدنيوية.‬
‫ومن هنا يتضح لنا االرتباط القوي، والعالقة الوطيدة، بني تدبر القرآن وبني اإلصالح الذي أمر اهلل به أنبياءه‬

‫ورسله حتقيقه مع أممهم الذين أُرسلوا إليهم ؛ ليخرجوهم من الظلمات إىل النور.‬

‫وأهمية تدبر القرآن يف اإلصالح سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع، ويف مجيع اجملاالت‬
‫احليوية، فإهنا تكمن يف إدراك وبلوغ المقاصد اليت جاء القرآن لتبياهنا، وتتمثل يف معرفة اهلل -جل وعال-‬
‫وعبادته ، ومها اللذان خلق اهلل اخللق ألجلهما ، ومها الغاية املقصودة منه تعاىل لعباده ، ومها املوصالن إىل كل‬
‫خري وفالح وصالح ، قال تعاىل : ﭽ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭼ الذاريات: ٨١ ، فاإلصالح يف‬
‫األرض ، أن تعمر بطاعة اهلل واإلميان به، فإذا عمل فيها بضده، كان سعيا فيها بالفساد، و إخرابا هلا عما‬

‫خلقت له.(2)‬
‫ُ‬

‫ثالثا:المقاصد واألبعاد في تدبر القرآن:‬

‫1- التيسري ح اجلامع الصغري، احلافظ زين الدين عبد الرؤوف املناوي، مكتبة اإلمام الشافعي،الرياض، ط ، 2041ه -‬
‫بشر‬
‫2291م، (1/144).‬
‫2- تفسري السعدي، املصدر السابق، (1/24).‬
‫22‬
‫ومن منطلقات حقائق تدبر القرآن استقرأ المفسرون المقاصد األصلية واألبعاد، املتعلقة مبجاالت اإلصالح‬

‫اليت حتدث عنها القرآن الكرمي ، وقد خلصها العالمة ابن عاشور يف مقدمة تفسريه(1)، يف مثانية أمور:‬

‫1- إصالح االعتقاد، وتعليم العقد الصحيح، وهو أعظم سبب إلصالح اخللق ؛ ألن إصالح االعتقاد هو‬
‫أصل اإلصالح، ومفتاح باب الصالح يف العاجل، والفالح يف اآلجل:‬
‫-ألنه يزيل عن النفس عادة اإلذعان لغري ما قام عليه الدليل.‬

‫ويطهر القلب من األوهام الناشئة عن الشرك و كيات، وقد أشار إىل هذا املعىن قوله تعاىل : ﭽ ﭸ ﭹ‬‫الشر‬

‫ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﭼ هود: ٣٠٣ فأسند آلهلتهم‬
‫زيادة تتبيبهم ، وليس هو من فعل اآلهلة، ولكنه من آثار االعتقاد باآلهلة، فسبب هالكهم ودمارهم، إمنا كان‬
‫ََ‬
‫باتباعهم تلك اآلهلة وعبادهتم إياها.‬
‫2- إصالح األخالق وتهذيبها، وال يكون ذلك إال بالتعليم الصحيح واآلداب اإلسالمية، قال اهلل تعاىل: ﭽ‬

‫ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﭼ القلم: ٢ ، وفسرت عائشة -رضي اهلل تعاىل عنها- ملا سئلت عن خلقه ‪ ‬فقالت :‬
‫ُ‬
‫" كان خلقه القرآن"2، ويف احلديث الذي رواه مالك يف املوطأ بالغا أن رسول اهلل ‪ ‬قال: ( بُعثت ألمتم حسن‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫األخالق) .‬
‫ إصالح التشريع ، واألعراف والقوانني املسرية للمؤسسات (القضائية، االقتصادية، التعليمية، الصحية...مبا‬‫يتماشى والشريعة اإلسالمية).‬
‫قال تعاىل : ﭽ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭼ‬

‫النساء: ١٠٣.‬
‫وقال تعاىل : ﭽﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈﮉ ﮊﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ‬

‫ﮐﮑ ﮒ ﮓﮔ ﭼ المائدة: ٦٢.‬
‫ولقد مجع القرآن مجيع األحكام مجعا كليا يف الغالب ، وجزئيا يف املهم ، فقوله تعاىل : ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ ﭼ‬

‫النحل: ٩٦ ، وقوله تعاىل : ﭽ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭼ المائدة: ١ ، املراد هبما إكمال الكليات اليت منها األمر‬
‫باالستنباط والقياس.‬

‫4‬

‫1- التحرير والتنوير، حممد الطاهر بن عاشور، املصدر السابق، (1/14)، بتصرف.‬
‫2- رواه أمحد يف مسنده، (ح:064 2، 05/611).‬
‫ رواه مالك يف املوطأ بالغا، (5/62 ).‬‫4- حترير والتنوير، حممد الطاهر بن عاشور، املصدر السابق، (1/14)، بتصرف.‬
‫32‬
‫4- إصالح سياسة األمة، وتدبير شؤونها، العامة واخلاصة، يف مجيع اجملاالت احليوية، وعلى مجيع املستويات،‬
‫وهو يف حقيقة األمر باب عظيم يف القرآن الكرمي، والقصد منه صالح األمة، أفرادا وجماعات، وحفظ نظامها،‬
‫بإصالح عقائدهم وأخالقهم، وبإصالح أمزجتهم باحملافظة عليهم من املهلكات واألخطار واألمراض، ومبداواهتم،‬

‫ودفع األضرار عنهم، وبكفاية مؤهنم من الطعام واللباس واملسكن، باملعروف، دون تقتري وال سرف، كذا بإصالح‬
‫و‬
‫أمواهلم، بتنميتها وتعهدها وحفظها، وتربيتهم على احملافظة على وحدة األمة ومتاسكها، وعلى الوسطية واالعتدال‬
‫يف كل أمر، والبعد عن الشقاق والغلو والتطرف.‬
‫وذلك بتدبر اآليات اخلاصة هبذا الشأن، كقوله تعاىل : ﭽﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ‬
‫ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ‬

‫ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﭼ آل عمران: ١٠٣.‬
‫وقوله تعاىل : ﭽ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﭼ‬

‫األنعام: ٩١٣.‬
‫وقوله تعاىل : ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭼ األنفال:‬

‫٨٢. (1)‬

‫5- اإلصالح بالقصص، وأخبار األمم السالفة:‬
‫للتأسي بصالح أحوالهم ؛ وذلك بتدبر اآليات اخلاصة هبذا الشأن،كما جاء يف قوله تعاىل: ﴿حنن نَقص‬‫َْ ُ ُ ُّ‬
‫علَْيك أَحسن الْقصص مبَا أَوحْي نَا إلَْيك ه ذا الْقرآن وإن كنت من قَ ْبله لَمن الْغَافلني﴾، يوسف- ، وقوله تعاىل:‬
‫َ‬
‫َ َ َ ُْ َ َ ُ َ‬
‫َ َ ْ ََ َ َ‬
‫َْ‬
‫َ‬

‫ﭽ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭼ األنعام:‬

‫٠٩.‬
‫-وللتحذير من مساوئهم ، قال تعاىل: ﭽﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ‬

‫ﮁ ﮂﮃ ﮄﮅ ﮆ ﭼ إبراهيم: ١٢.‬
‫6- اإلصالح بالتربية والتعليم، مناهجها وطرقها وبراجمها، مبا يناسب حالة عصر املخاطبني، وما يؤهلهم إىل‬

‫تلقي الشريعة ونشرها، وذلك علم الشرائع وعلم األخبار، كان ذلك مبلغ علم خمالطي العرب من أهل الكتاب.‬
‫و‬
‫1- حترير والتنوير، حممد الطاهر بن عاشور، (1/14).‬
‫42‬
‫وقد زاد القرآن على ذلك تعليم حكمة ميزان العقول وصحة االستدالل يف أفانني جمادالته للضالني، ويف‬
‫دعوته إىل النظر، مث نوه بشأن احلكمة، فقال تعاىل : ﭽﯤﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ‬

‫ﯯﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﭼ البقرة: ٩٨٤.‬
‫وهذا أوسع باب انبجست منه عيون املعارف، وانفتحت به عيون األميني إىل العلم.‬
‫وقد حلق به التنبيه املتكرر على فائدة العلم، وذلك شيء مل يطرق أمساع العرب من قبل، إمنا قصارى علومهم‬
‫أمور جتريبية، كان حكماؤهم أفرادا اختصوا بفرط ذكاء تُضم إليه جتربة ، وهم العرفاء ، فجاء القرآن بقوله تعاىل :‬
‫و‬

‫ﭽ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﭼ العنكبوت: ١٢ ، وقوله تعاىل : ﭽ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ‬

‫ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﭼ الزمر: ٩ ، وقوله تعاىل : ﭽﮉﮊ ﮋ ﭼ القلم: ٣ ، فنبه إىل مزية القراءة والكتابة.‬

‫1‬

‫2- اإلصالح بتدبر آيات الوعد والوعيد، املتضمنة المواعظ واإلنذار والتبشير، كذلك احملاجة واجملادلة‬
‫و‬

‫للمعاندين، وهذا باب الرتغيب والرتهيب.‬

‫2- اإلصالح بتدبر اآليات اخلاصة ببيان وجوه اإلعجاز في القرآن ؛ ليكون آية دالة على صدق الرسول ‪ ‬؛‬
‫ْ‬

‫إذ التصديق يتوقف على داللة املعجزة بعد التحدي، والقرآن مجع كونه معجزة بلفظه، ومتحدي ألجله مبعناه،‬

‫والتحدي وقع فيه، قال تعاىل : ﭽ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ‬

‫ﯣ ﭼ يونس: ٦١.(2)‬
‫ويتفرع عن عالقة التدبر باإلصالح:‬
‫أن وظيفة املصلحني، تنطلق من التدبر والتأمل، يف اآليات القرآنية اخلاصة بكل جمال من اجملاالت احليوية،‬
‫اجتماعيا، واقتصاديا، وثقافيا، وتربويا، وهي تتمثل يف إرادة اإلصالح، بتحقيق املصلحة اليت تصلح هبا أحوال‬

‫العباد، وتستقيم هبا أمورهم الدينية والدنيوية، وذلك:‬
‫بتحصيل املصاحل وتكميلها.‬‫وبدفع املفاسد وتقليلها.‬‫-ومبراعاة املصاحل العامة على املصاحل اخلاصة.‬

‫1- ابن عاشور، املصدر نفسه، (1/14)، بتصرف.‬
‫2- ابن عاشور، املصدر السابق، (1/14)، بتصرف.‬
‫52‬
‫وأن من قام مبا يقدر عليه من اإلصالح، مل يكن ملوما وال مذموما يف عدم فعل ما ال يقدر عليه ، فعلى العبد‬
‫أن يقيم من اإلصالح يف نفسه ويف غريه، ما يقدر عليه، لقوله تعاىل : ﴿إن أُريد إالَّ اإلصالَح ما استَطَعت﴾،‬
‫ْ ُ‬
‫ْ َ َ ْ ْ ُ‬

‫هود-22، كما ينبغي له أن ال يتكل على نفسه طرفة عني ، بل ال يزال مستعينا بربه - سبحانه وتعاىل- ،‬
‫كال عليه، سائال له التوفيق ؛ لقوله تعاىل : ﴿وما تَوفيقي إال باللَّه علَْيه تَ َك ْلت وإلَْيه أُنيب﴾، ولقول النيب ‪‬‬
‫متو‬
‫ََ ْ‬
‫َ وَّ ُ َ‬
‫ُ‬
‫: " اللَّهم رمحَتَك أَرجو فَال تَك ْلين إىل نَفسي طَرفَةَ عني"1 .‬
‫ُ َّ َ ْ َ ْ ُ َ‬
‫َ ْ‬
‫ْ َْ‬
‫والحمد هلل الذي بنعمته تتم الصالحات.‬

‫1- رواه أبو داود يف سننه (ح:2905، 4/424).‬
‫62‬
‫الخاتمة:‬
‫وجملة القول يف خاتمة هذا البحث املتواضع، وما تضمنه من نتائج:‬
‫فإن تدبر القرآن الكرمي، والوقوف عند معاين آياته وأحكامه، هو من األمور املهمات، وآثاره اإلصالحية على‬
‫مجيع املستويات جليات ، إن على مستوى األفراد أو على مستوى اجملتمعات، وذلك يف مجيع اجملاالت، كإصالح‬
‫ْ‬
‫االعتقاد، وتهذيب األخالق، وتشريع األحكام، وتحديد سياسات األمة، التي بها يتم صالحها وحفظ‬
‫نظامها، اقتصاديا، وثقافيا، وصحيا، وتعليميا، واجتماعيا...، كل هذه املعاين وغريها، تدخل ضمن المقاصد‬
‫و‬
‫الجامعة للقرآن الكريم، يف تقومي حياة الناس إىل يوم الدين، قال اهلل تعاىل: ﭽ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬

‫ﭦ ﭧ ﭨﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭼ اإلسراء: ٩.‬
‫وال ريب أن قيمة القرآن كته تكمل يف تالوته، وتدبره، والعمل به، فما اللفظ وترتيله إال وسيلة يف إدراك‬
‫وبر‬

‫املعىن وحتصيله، وطلب اخلشوع، والتأثر به، وترمجة هذا التأثر إىل عمل صاحل.‬

‫فاآليات القرآنية، والنصوص الحديثية، وما ثبت من ذلك يف وقائع سير السلف الصالح، يدل على أن تدبر‬
‫القرآن، وتفهمه، وتعلمه، والعمل به، أمر ال بد منه للمسلمين، وأن ثواب قراءة الرتتيل والتدبر أجل وأرفع قدرا.‬
‫ُّ ُ‬
‫وقد بني النبي ‪ ‬أن املشتغلني بذلك، هم خير الناس، كما ثبت عنه ‪ ‬يف الصحيح من حديث عثمان بن‬
‫عفان ‪ ‬أنه قال :( كم من تعلم القرآن وعلمه ) ، وقال تعاىل: ﭽ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ‬
‫خير‬

‫ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﭼ آل عمران: ٩٢.‬
‫فإعراض كثري من الناس عن التدبر في كتاب اهلل، والنظر فيه، وتفهمه، والعمل به، وبالسنة الثابتة املبينة له،‬

‫يف مجيع اجملاالت احليوية، اجتماعيا، واقتصاديا، وتربويا، وثقافيا، وسياسيا، وما إىل ذلك من األمور اليت حتتاج‬
‫إليها األمة، أفرادا ومجاعات، هو من أعظم املناكر وأشنعها، وإن ظن فاعلوه أهنم على هدى، باتباعهم مناهج‬
‫غربية علمانية مستوردة، واهلل املستعان.‬
‫وأن حقيقة التدبر تكمن يف الحقائق املرجوة واملقصودة منه، وتتمثل أصال يف بيان مراد اهلل من إنزاله القرآن‬
‫الكرمي، واملتتبع لآليات اخلاصة هبذا الشأن، وأخص بالذكر آيات البيان وآيات التدبر، تتجلى لديه حقيقة‬
‫ُّ‬
‫التدبر األساسية، اليت تكشف لنا عن حكمتين من حكم إنزال القرآن على النيب صلى اهلل عليه وسلم، كما بني‬
‫َ‬

‫أهل العلم خلفا وسلفا:‬

‫72‬
‫الحكمة األولى: أن اهلل ‪ ‬أنزل القرآن على نبيه ‪ ‬ليبين للناس ما نزِل إليهم يف هذا الكتاب، من‬
‫األحكام الشرعية، والوعد والوعيد، وحنو ذلك.‬
‫والحكمة الثانية: هي التدبر والتفكر يف آيات اهلل واالتعاظ هبا، والتأمل يف أحكامها ومقاصدها، والعمل مبا‬
‫جاء فيها تقربا إىل رضى اهلل –تعاىل-.‬
‫وعليه ، فإن قوله تعاىل : ﴿ليَدبَّروا﴾ متعلق ب قوله تعاىل : ﴿أَنزلْنَاهُ﴾، واملراد أنزلناه ليدبروا آياته، وذلك‬
‫َ‬
‫َّ ُ‬
‫بغرض استخراج حقائق أسرار التكوين والتشريع، ومضمون هذه املعاين يشري إىل الغاية والمقصود من إنزال‬
‫القرآن، وهو أن يتخذ دستوراً ومنهجاً، يسريون عليه املسلمون ويرجعون إليه، وحيتكمون إىل تعاليمه وآياته،‬

‫لقوله تعاىل : ﭽﮚ ﮛ ﮜﮝﮞﮟ ﭼ المائدة: ٦٢.‬

‫وال شك أن االعتناء بالقرآن الكرمي تدبرا وتفكرا وتأمال، له األهمية الكربى يف ترقية الفرد والمجتمع، يف‬
‫جمال إصالح أحواهلم االجتماعية واالقتصادية والثقافية والرتبوية، وما إىل ذلك من األمور احليوية واملهمة يف حياة‬
‫الناس.‬

‫وأن مفهوم اإلصالح يف الرؤية اإلسالمية، هو العودة للفطرة البشرية اليت خلق اهلل الناس عليها، قال تعاىل: ﭽ‬

‫ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﭼ الروم: ٠١ ، وال يكون ذلك إال بالتدبر، والعودة لدينه،‬
‫وهلدي نبيه ‪ ، ‬قال تعاىل : ﭽ ﯥ ﯦ ﯧ ﭼ الروم: ٠١ ، وما عدا ذلك فهو الفساد، وإن كان‬
‫ظاهره الصالح، ففي اإلرشاد إىل الصالح والكمال مناء ملا أودع اهلل يف النفوس من اخلري يف الفطرة.‬
‫واإلصالح هو مهمة األنبياء واملرسلني، والدعاة إىل اهلل واملخلصني له، كما جاء على لسان شعيب ‪ ، ‬يف‬
‫قوله تعاىل: ﭽ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷﯸ ﭼ هود: ٦٦ ؛ ألن اهلل ما أراد بشرعه إال إصالح الناس، يف دينهم‬
‫ودنياهم وأخراهم، وهي الحكمة من إنزال القرآن الكرمي ؛ ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها، ويتأملوا‬

‫أسرارها وحكمها، فهو مفتاح للعلوم واملعارف الدينية والدنيوية، وبه يُستنتج كل خري، عاجال أو آجال.‬

‫ومن هنا يتضح لنا االرتباط القوي، والعالقة الوطيدة، بني تدبر القرآن وبني اإلصالح الذي أمر اهلل به أنبياءه‬

‫ورسله حتقيقه مع أممهم الذين أُرسلوا إليهم ؛ ليخرجوهم من الظلمات إىل النور.‬

‫82‬
‫وأهمية تدبر القرآن يف اإلصالح سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع، تكمن يف إدراك‬
‫وبلوغ المقاصد، اليت جاء القرآن لتبياهنا، وتتمثل يف معرفة اهلل -جل وعال- وعبادته، ومها اللذان خلق اهلل‬
‫اخللق ألجلهما، ومها الغاية املقصودة منه تعاىل لعباده، ومها املوصالن إىل كل خري وفالح وصالح.‬
‫فاإلصالح يف األرض، أن تعمر بطاعة اهلل واإلميان به، فإذا عمل فيها بضده، كان سعيا فيها بالفساد، وإخرابا‬
‫هلا عما خلقت له ؛ لقوله تعاىل : ﭽﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﭼ األعراف: ٨١.‬
‫ومن منطلقات حقائق تدبر القرآن، تُستقرأ المقاصد األصلية واألبعاد، املتعلقة مبجاالت اإلصالح اليت‬

‫حتدث عنها القرآن الكرمي، وقد خلصها جل املفسرون يف:‬

‫-إصالح االعتقاد، وهو أعظم سبب إلصالح اخللق ؛ ألن إصالح االعتقاد هو أصل اإلصالح، ومفتاح‬

‫باب الصالح يف العاجل، والفالح يف اآلجل.‬
‫- وإصالح األخالق وتهذيبها.‬

‫- وإصالح التشريع، واألعراف والقوانني املسرية للمؤسسات (القضائية، االقتصادية، التعليمية، الصحية...مبا‬

‫يتماشى والشريعة اإلسالمية).‬

‫ وإصالح سياسة األمة، وتدبير شؤونها، العامة واخلاصة، يف مجيع اجملاالت احليوية، وعلى مجيع املستويات،‬‫وهو يف حقيقة األمر باب عظيم يف القرآن الكرمي، والقصد منه صالح األمة، أفرادا وجماعات، وحفظ نظامها.‬
‫ واإلصالح بالقصص، وأخبار األمم السالفة ؛ للتأسي بصالح أحوالهم، والتحذير من مساوئهم.‬‫ واإلصالح بالتربية والتعليم والتكوين، بسالمة املناهج والطرق والربامج، مبا يناسب حالة عصر املخاطَبني،‬‫وما يؤهلهم إىل ترقية احلضارة االسالمية، يصدق فيهم قوله تعاىل : ﭽ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭼ آل عمران:‬

‫٠٣٣.‬
‫ واإلصالح بتدبر آيات الوعد والوعيد، املتضمنة المواعظ واإلنذار والتبشير، كذلك احملاجة واجملادلة مع‬‫و‬
‫املخالف بالتي هي أحسن، وهذا باب الرتغيب والرتهيب.‬
‫ واإلصالح بتدبر اآليات اخلاصة ببيان وجوه اإلعجاز في القرآن ؛ ليكون آية دالة على صدق الرسول ‪‬‬‫، وعلى صدق عالمية االسالم.‬
‫وهكذا، تنطلق وظيفة المصلحين، يف كل زمان ومكان، من التدبر والتأمل والتفكر، يف اآليات القرآنية‬
‫اخلاصة بكل جمال من اجملاالت احليوية، االجتماعية، واالقتصادية، والثقافية، والرتبوية، والسياسية، بإرادة‬
‫اإلصالح الشامل، لتحقيق املصلحة اليت تصلح هبا أحوال العباد، وتستقيم هبا أمورهم الدينية والدنيوية، واهلل‬
‫أعلى وأعلم ، وعلمه أتم.‬
‫92‬
‫التوصيات:‬
‫وهذه بعض التوصيات اليت رأيت أهنا تفيد موضوع البحث خصوصا، وموضوع املؤمتر عموما.‬
‫ ينبغي االهتمام واالعتناء مبثل هذه املؤمترات والندوات العلمية، اخلاصة بالقرآن الكرمي والسنة النبوية.‬‫ تربية الشباب للعودة إىل االستقامة على هنج القرآن الكرمي والسنة النبوية، واالعتناء بكتاب اهلل، وحثهم على‬‫تالوته، وتدبره، وفهم معانيه، واالستفادة من هداياته وعظاته.‬
‫ تشجيع املؤسسات التعليمية، اخلاصة حبفظ القرآن الكرمي، وتنميتها وترقيتها، ماديا ومعنويا، وأن تكون بالفعل‬‫حمل اهتمام الراعي والرعية.‬
‫ إصالح تعليم القرآن الكريم، بإعادة النظر يف الوسائل والربامج، فالبد من وضع مناهج للمتعلمني، تشجعهم‬‫على تدبر القرآن الكريم وفهم معانيه، والوصول هبم إىل درجة تكسبهم ملكة التدبر لكتاب اهلل تعاىل.‬
‫ تشجيع اإلعالم وأجهزة التواصل المجتمعاتية بكل أنواعها، املرئية واملسموعة واملكتوبة، يف إظهار قيمة‬‫التدبر وأثره في اإلصالح، حنو األحسن واألتقن واألجود.‬
‫ تأسيس مواقع علمية تتعلق بالتدبر، وترمجتها إىل خمتلف اللغات العاملية.‬‫ بيان أن كل المصطلحات اليت تدل على اإلحسان واإلتقان ، والدقة، والجودة، والمهارات، واإلبداع، وما‬‫كها وجوهرها هو التدبر، الذي يرجع باإلنسان إىل الفطرة‬
‫شاكلها، يف فهم القرآن الكريم، إال وروحها ومحر‬
‫اليت فطر اهلل الناس عليها، سواء يف العقائد، أو العبادات، أو املعامالت، أو األخالق والفضائل ؛ وهلذا ميكننا‬
‫القول أن للتدبر آثارا طيبة ومتميزة يف تنمية الفرد والمجتمع، باعتباره عبادة ومنهج حياة، يساهم يف صناعة‬
‫التميز، وحافز كبري لكسب رهان التقدم والرقي الحضاري، والدفع باإلنسانية ملا هو أفضل وأنفع؛ وهلذا أمر به‬

‫اهلل ‪ ‬ونبيه املصطفى ‪ ، ‬ورغبا فيه.‬

‫واهلل ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل‬
‫وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين.‬

‫03‬
‫فهرس المصادر والمراجع:‬
‫القرآن الكريم، برواية ورش.‬
‫1. أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن، حممد األمني بن حممد املختار بن عبد القادر اجلكين الشنقيطي،‬
‫دار الفكر، بريوت، 5141ه - 5991م.‬
‫2. أمراض القلب وشفاؤها، شيخ اإلسالم ابن تيمية، املطبعة السلفية، القاهرة، ط99 1،2ه .‬
‫. تاج العروس من جواهر القاموس، حممد بن حممد بن عبد الرزاق احلسيين، أبو الفيض، امللقب مبرتضى،‬
‫الزبيدي.‬
‫َّ‬
‫4. التحرير والتنوير، حممد الطاهر بن عاشور التونسي، مؤسسة التاريخ العريب، بريوت،ط1، 0241ه‬
‫،0002م.‬
‫5. حتفة األحوذي ح جامع الرتمذي، حممد عبد الرمحن بن عبد الرحيم املبار كفوري أبو العال، دار‬
‫بشر‬
‫الكتب العلمية، بريوت.‬
‫6. تفسري القرآن العظيم، أبو الفداء إمساعيل بن كثري الدمشقي، دار الفكر،(در،دت).‬
‫2. تيسري الكرمي الرمحن يف تفسري كالم املنان، عبد الرمحن بن ناصر بن عبد اهلل السعدي (املتوىف:‬
‫62 1ه )، احملقق:عبد الرمحن بن معال اللوحيق، مؤسسة الرسالة، ط1، 0241ه -0002م.‬
‫2. التيسري ح اجلامع الصغري، احلافظ زين الدين عبد الرؤوف املناوي، مكتبة اإلمام الشافعي، الرياض،‬
‫بشر‬
‫ط ، 2041ه -2291م.‬
‫9. جامع البيان يف تأويل القرآن، حممد بن جرير بن يزيد بن كثري بن غالب اآلملي، أبو جعفر الطربي،‬
‫احملقق: أمحد حممد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 0241ه - 0002م.‬
‫01. اجلامع ألحكام القرآن، لإلمام أبو عبد اهلل حممد بن أمحد األنصاري القرطيب، دار الكتب العلمية،‬
‫بريوت – لبنان، الطبعة عام 141ه - 991م.‬
‫11. روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين، حممود األلوسي أبو الفضل، دار إحياء الرتاث‬
‫العريب-بريوت.‬
‫21. زاد املعاد يف هدي خري العباد، مشس الدين ابن قيم اجلوزية، مؤسسة الرسالة، بريوت-مكتبة املنار‬
‫اإلسالمية، الكويت، ط22، 5141ه /4991م.‬
‫1. سبل السالم، حممد بن إمساعيل األمري الكحالين الصنعاين، مكتبة مصطفى البايب احلليب، ط4،‬
‫92 1ه -0691م.‬
‫41. السنن الكربى، أبو بكر أمحد بن احلسني بن علي البيهقي، جملس دائرة املعارف النظامية الكائنة يف‬
‫اهلند ببلدة حيدر آباد، ط1، 44 1 ه.‬
‫13‬
‫51. السنن، ابن ماجه، حممد بن يزيد القزويين، حتقيق حممد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بريوت.‬
‫61. السنن، أبو داود، سليمان بن األشعث السجستاين، حتقيق حممد حميي الدين عبد احلميد، دار الفكر.‬
‫21. السنن، الرتمذي، حممد بن عيسى أبو عيسى السلمي، السنن، أمحد حممد شاكر وآخرون، دار إحياء‬
‫الرتاث العريب، بريوت، (در، دت).‬
‫21. السنن، النسائي اجملتىب،أبو عبد الرمحن النسائي، حتقيق عبد الفتاح أبو غدة،ط2، مكتب املطبوعات‬
‫اإلسالمية، حالب، 6041ه ، 6291م.‬
‫91. ح سنن أيب داود، أبو حممد حممود بن أمحد بن موسى بن أمحد بن حسني الغيايب احلنفى بدر الدين‬
‫شر‬
‫العيىن (املتوىف:552ه )، احملقق:أبو املنذر خالد بن إبراهيم املصري، مكتبة الرشد–الرياض،‬
‫ط0241،1ه -9991م.‬
‫02. ح صحيح البخاري، أ بو احلسن علي بن خلف بن عبد امللك بن بطال البكري القرطيب، حتقيق: أبو‬
‫شر‬
‫متيم ياسر بن إبراهيم مكتبة الرشد، الرياض، ط2، 241ه - 002م.‬
‫12. شعب اإلميان، أبو بكر البيهقي، دار الكتب العلمية، بريوت، ط41، 0141ه .‬
‫22. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، إمساعيل بن محاد اجلوهري، حتقيق:أمحد عبد الغفور عطار، دار‬
‫العلم للماليني-بريوت، ط4، 2041ه-2291م.‬
‫2. صحيح البخاري، حتقيق مصطفى ديب البغا، دار اهلدى، اجلزائر، 2991م.‬
‫42. صحيح مسلم، احملقق حممد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الرتاث العريب، بريوت، (در، دت).‬
‫52. الطبعة الثانية ، 041‬
‫62. فتح الباري ح صحي ح البخاري، أمحد بن علي ابن حجر العسقالين أبو الفضل، دار املعرفة، بريوت،‬
‫شر‬
‫(در، دت).‬
‫22. فتح الباري ح صحيح البخاري، زين الدين أيب ج عبد الرمحن ابن شهاب الدين البغدادي مث‬
‫الفر‬
‫شر‬
‫الدمشقي الشهري بابن رجب، دار ابن اجلوزي– السعودية، الدمام- 2241ه .‬
‫22. فتح القدير اجلامع ب ني فين الرواية والدراية من علم التفسري، لإلمام حممد بن علي بن حممد كاين‬
‫الشو‬
‫املتوىف عام 0521ه ، طبعة دار الفكر ودار الكلم الطيب، بريوت–لبنان، الطبعة األوىل عام 4141ه -‬
‫4991م.‬
‫92. القاموس احمليط، الفريوز آبادي، جمد الدين حممد بن يعقوب، مكتبة النووي، دمشق، (در، دت).‬
‫0 . جلامع ألحكام القرآن، أبو عبد اهلل حممد بن أمحد بن أيب بكر بن ح األنصاري اخلزرجي مشس الدين‬
‫فر‬
‫القرطيب، احملقق: هشام مسري البخاري، دار عامل الكتب، الرياض، اململكة العربية السعودية، 241ه -‬
‫002م.‬
‫1 . لسان العرب، حممد بن مكرم بن منظور األفريقي املصري ، دار صادر–بريوت، ط1، (د ت).‬
‫23‬
تدبر القرآن الكريم

Mais conteúdo relacionado

Mais procurados

أسئلة العقيدة الطحاوية مع الأجابات
أسئلة العقيدة الطحاوية مع الأجاباتأسئلة العقيدة الطحاوية مع الأجابات
أسئلة العقيدة الطحاوية مع الأجابات
alakeeda
 
الصلاة
الصلاةالصلاة
الصلاة
Mero Cool
 
تحريرات ورش من طريق الشاطبية
تحريرات ورش من طريق الشاطبيةتحريرات ورش من طريق الشاطبية
تحريرات ورش من طريق الشاطبية
سمير بسيوني
 

Mais procurados (20)

الاحاديث الصحيحة فى فضائل سور من القران
الاحاديث الصحيحة فى فضائل سور من القرانالاحاديث الصحيحة فى فضائل سور من القران
الاحاديث الصحيحة فى فضائل سور من القران
 
أسئلة العقيدة الطحاوية مع الأجابات
أسئلة العقيدة الطحاوية مع الأجاباتأسئلة العقيدة الطحاوية مع الأجابات
أسئلة العقيدة الطحاوية مع الأجابات
 
قصيدة مميزة تسهل لك طريقة حفظ القرآن ومراجعته
قصيدة مميزة تسهل لك طريقة حفظ القرآن ومراجعتهقصيدة مميزة تسهل لك طريقة حفظ القرآن ومراجعته
قصيدة مميزة تسهل لك طريقة حفظ القرآن ومراجعته
 
6.8 qabulul ibadah
6.8 qabulul ibadah6.8 qabulul ibadah
6.8 qabulul ibadah
 
كتاب جمع القراءات العشر الكبرى تلاوة الشيخ أحمد طلبة وإشراف الشيخ يسري عوض وت...
كتاب جمع القراءات العشر الكبرى تلاوة الشيخ أحمد طلبة وإشراف الشيخ يسري عوض وت...كتاب جمع القراءات العشر الكبرى تلاوة الشيخ أحمد طلبة وإشراف الشيخ يسري عوض وت...
كتاب جمع القراءات العشر الكبرى تلاوة الشيخ أحمد طلبة وإشراف الشيخ يسري عوض وت...
 
فن التدبر في القرآن الكريم
فن التدبر في القرآن الكريمفن التدبر في القرآن الكريم
فن التدبر في القرآن الكريم
 
( إتحاف المهرة فى جمع العشرة للشيخ قدرى بن محمد بن عبد الوهاب حفظه الله ( سور...
( إتحاف المهرة فى جمع العشرة للشيخ قدرى بن محمد بن عبد الوهاب حفظه الله ( سور...( إتحاف المهرة فى جمع العشرة للشيخ قدرى بن محمد بن عبد الوهاب حفظه الله ( سور...
( إتحاف المهرة فى جمع العشرة للشيخ قدرى بن محمد بن عبد الوهاب حفظه الله ( سور...
 
40 hadithet kudsi xhamiambretcom
40 hadithet kudsi xhamiambretcom40 hadithet kudsi xhamiambretcom
40 hadithet kudsi xhamiambretcom
 
الجزء7 جامع القراءات
الجزء7 جامع القراءاتالجزء7 جامع القراءات
الجزء7 جامع القراءات
 
فضائل القران الكريم
فضائل القران الكريمفضائل القران الكريم
فضائل القران الكريم
 
دراسة المخارج والصفات جمال القرش
دراسة المخارج والصفات جمال القرشدراسة المخارج والصفات جمال القرش
دراسة المخارج والصفات جمال القرش
 
الصلاة
الصلاةالصلاة
الصلاة
 
تحريرات ورش من طريق الشاطبية
تحريرات ورش من طريق الشاطبيةتحريرات ورش من طريق الشاطبية
تحريرات ورش من طريق الشاطبية
 
دعاء جبريل
دعاء جبريلدعاء جبريل
دعاء جبريل
 
Materi IBC 12 Dosa Investasi
Materi IBC 12 Dosa InvestasiMateri IBC 12 Dosa Investasi
Materi IBC 12 Dosa Investasi
 
المقطوع والموصول بين رسم المصحف والأداء اللغوي مصحف المدينة نموذجا
المقطوع والموصول بين رسم المصحف والأداء اللغوي مصحف المدينة نموذجاالمقطوع والموصول بين رسم المصحف والأداء اللغوي مصحف المدينة نموذجا
المقطوع والموصول بين رسم المصحف والأداء اللغوي مصحف المدينة نموذجا
 
6.7 syumuliyyatul ibadah
6.7 syumuliyyatul ibadah6.7 syumuliyyatul ibadah
6.7 syumuliyyatul ibadah
 
الكناية
الكنايةالكناية
الكناية
 
القرآن تدبر وعمل - الجزء السادس
 القرآن تدبر وعمل - الجزء السادس  القرآن تدبر وعمل - الجزء السادس
القرآن تدبر وعمل - الجزء السادس
 
Darimana Kita Berasal?
Darimana Kita Berasal?Darimana Kita Berasal?
Darimana Kita Berasal?
 

Semelhante a تدبر القرآن الكريم

مبادىء علم التجويد
مبادىء علم التجويدمبادىء علم التجويد
مبادىء علم التجويد
Heba Ahmed
 
عقيـدتنا لرئيس قسم العقيدة بالأزهر الدكتور طه الدسوقي مهدي حبيشي
عقيـدتنا لرئيس قسم العقيدة بالأزهر الدكتور طه الدسوقي مهدي حبيشيعقيـدتنا لرئيس قسم العقيدة بالأزهر الدكتور طه الدسوقي مهدي حبيشي
عقيـدتنا لرئيس قسم العقيدة بالأزهر الدكتور طه الدسوقي مهدي حبيشي
Free Interactive Islamic College, All in One Open Traditional Certificate www.Muhammad.com
 

Semelhante a تدبر القرآن الكريم (20)

مفهوم المخالفة - Mafhumul Mukholafah
مفهوم المخالفة - Mafhumul Mukholafahمفهوم المخالفة - Mafhumul Mukholafah
مفهوم المخالفة - Mafhumul Mukholafah
 
علم تفسير في الحضارة الاسلاميه
علم تفسير في الحضارة الاسلاميهعلم تفسير في الحضارة الاسلاميه
علم تفسير في الحضارة الاسلاميه
 
Ar hakza asho ma quran
Ar hakza asho ma quranAr hakza asho ma quran
Ar hakza asho ma quran
 
هكذا عاشوا مع القرآن قصص ومواقف
هكذا عاشوا مع القرآن قصص ومواقفهكذا عاشوا مع القرآن قصص ومواقف
هكذا عاشوا مع القرآن قصص ومواقف
 
Tafsir Munir Jilid 01 (Syech Imam Nawawi Albantani )Banten
Tafsir Munir  Jilid 01 (Syech Imam Nawawi Albantani  )BantenTafsir Munir  Jilid 01 (Syech Imam Nawawi Albantani  )Banten
Tafsir Munir Jilid 01 (Syech Imam Nawawi Albantani )Banten
 
العلم الشرعي
العلم الشرعيالعلم الشرعي
العلم الشرعي
 
.kompre.doc
.kompre.doc.kompre.doc
.kompre.doc
 
PENGANTAR ILMU TAFSIR العربيةpptx.pptx
PENGANTAR ILMU TAFSIR العربيةpptx.pptxPENGANTAR ILMU TAFSIR العربيةpptx.pptx
PENGANTAR ILMU TAFSIR العربيةpptx.pptx
 
Student seminar-الأعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية
Student seminar-الأعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبويةStudent seminar-الأعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية
Student seminar-الأعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية
 
مبادىء علم التجويد
مبادىء علم التجويدمبادىء علم التجويد
مبادىء علم التجويد
 
التفكر الايماني
 التفكر الايماني التفكر الايماني
التفكر الايماني
 
001
001001
001
 
Mesbah
MesbahMesbah
Mesbah
 
BERINTERAKSI DENGAN AL-QURAN.pptx
BERINTERAKSI DENGAN AL-QURAN.pptxBERINTERAKSI DENGAN AL-QURAN.pptx
BERINTERAKSI DENGAN AL-QURAN.pptx
 
أصول-الفقه٢ (3).pdf
أصول-الفقه٢ (3).pdfأصول-الفقه٢ (3).pdf
أصول-الفقه٢ (3).pdf
 
أصول-الفقه٢ (4).pdf
أصول-الفقه٢ (4).pdfأصول-الفقه٢ (4).pdf
أصول-الفقه٢ (4).pdf
 
٣٥ توصية لحفظة كتاب الله تعالى
٣٥ توصية لحفظة كتاب الله تعالى   ٣٥ توصية لحفظة كتاب الله تعالى
٣٥ توصية لحفظة كتاب الله تعالى
 
Pengantar Studi Al Quran dan Hadits 1.docx
Pengantar Studi Al Quran dan Hadits 1.docxPengantar Studi Al Quran dan Hadits 1.docx
Pengantar Studi Al Quran dan Hadits 1.docx
 
عقيـدتنا لرئيس قسم العقيدة بالأزهر الدكتور طه الدسوقي مهدي حبيشي
عقيـدتنا لرئيس قسم العقيدة بالأزهر الدكتور طه الدسوقي مهدي حبيشيعقيـدتنا لرئيس قسم العقيدة بالأزهر الدكتور طه الدسوقي مهدي حبيشي
عقيـدتنا لرئيس قسم العقيدة بالأزهر الدكتور طه الدسوقي مهدي حبيشي
 
كيف يجب علينا أن نفسر القران
كيف يجب علينا أن نفسر القرانكيف يجب علينا أن نفسر القران
كيف يجب علينا أن نفسر القران
 

Último

عرض تقديمي تكليف رقم (1).الرسوم التعليمية
عرض تقديمي تكليف رقم (1).الرسوم  التعليميةعرض تقديمي تكليف رقم (1).الرسوم  التعليمية
عرض تقديمي تكليف رقم (1).الرسوم التعليمية
fsaied902
 

Último (20)

دمشق تاريخ معطر بالياسمين - ماهر أسعد بكر
دمشق تاريخ معطر بالياسمين - ماهر أسعد بكردمشق تاريخ معطر بالياسمين - ماهر أسعد بكر
دمشق تاريخ معطر بالياسمين - ماهر أسعد بكر
 
اهمية ملحمة جلجامش تاريخيا وفكريا وأدبيا
اهمية ملحمة جلجامش تاريخيا وفكريا وأدبيااهمية ملحمة جلجامش تاريخيا وفكريا وأدبيا
اهمية ملحمة جلجامش تاريخيا وفكريا وأدبيا
 
.. مهارات ادارة الوقت و مهارات تنظيم الوقت.ppt
.. مهارات ادارة الوقت و مهارات تنظيم الوقت.ppt.. مهارات ادارة الوقت و مهارات تنظيم الوقت.ppt
.. مهارات ادارة الوقت و مهارات تنظيم الوقت.ppt
 
"الدعامة الأساسية التي يقوم عليها التقويم الذاتي
"الدعامة الأساسية التي يقوم عليها التقويم الذاتي"الدعامة الأساسية التي يقوم عليها التقويم الذاتي
"الدعامة الأساسية التي يقوم عليها التقويم الذاتي
 
عرض تقديمي النقائض في العصر الأموي إعداد سلوي أحمد
عرض تقديمي النقائض في العصر الأموي إعداد سلوي أحمدعرض تقديمي النقائض في العصر الأموي إعداد سلوي أحمد
عرض تقديمي النقائض في العصر الأموي إعداد سلوي أحمد
 
درس المنادي للصف الاول الثانوي اعداد إسراء محمد
درس المنادي للصف الاول الثانوي اعداد إسراء محمددرس المنادي للصف الاول الثانوي اعداد إسراء محمد
درس المنادي للصف الاول الثانوي اعداد إسراء محمد
 
محمد احمد سيد احمد محمد سباق عمر يوسف عبدالكريم
محمد احمد سيد احمد محمد سباق عمر يوسف عبدالكريممحمد احمد سيد احمد محمد سباق عمر يوسف عبدالكريم
محمد احمد سيد احمد محمد سباق عمر يوسف عبدالكريم
 
.العروض التقديمية والرسومات التعليمية bdf
.العروض التقديمية والرسومات التعليمية bdf.العروض التقديمية والرسومات التعليمية bdf
.العروض التقديمية والرسومات التعليمية bdf
 
by modar saleh في التصوير التلفزيوني أحجام اللقطات .ppt
by modar saleh في التصوير التلفزيوني أحجام اللقطات .pptby modar saleh في التصوير التلفزيوني أحجام اللقطات .ppt
by modar saleh في التصوير التلفزيوني أحجام اللقطات .ppt
 
1 علم الخلية الم.pdf............................................................
1 علم الخلية الم.pdf............................................................1 علم الخلية الم.pdf............................................................
1 علم الخلية الم.pdf............................................................
 
الصف الثاني الاعدادي - العلوم -الموجات.pdf
الصف الثاني الاعدادي - العلوم -الموجات.pdfالصف الثاني الاعدادي - العلوم -الموجات.pdf
الصف الثاني الاعدادي - العلوم -الموجات.pdf
 
اللام الشمسية واللام القمرية لصف الرابع
اللام الشمسية واللام القمرية  لصف الرابعاللام الشمسية واللام القمرية  لصف الرابع
اللام الشمسية واللام القمرية لصف الرابع
 
شكل الحرف وطريقة الرسم DOC-20240322-WA0012..pdf
شكل الحرف وطريقة الرسم DOC-20240322-WA0012..pdfشكل الحرف وطريقة الرسم DOC-20240322-WA0012..pdf
شكل الحرف وطريقة الرسم DOC-20240322-WA0012..pdf
 
أدب درس النقائض إعداد سلوي أحمد بديرأحمد
أدب درس النقائض إعداد سلوي أحمد بديرأحمدأدب درس النقائض إعداد سلوي أحمد بديرأحمد
أدب درس النقائض إعداد سلوي أحمد بديرأحمد
 
السرقات الشعرية إعداد غادة محمد عبد الراضي
السرقات الشعرية إعداد غادة محمد عبد الراضيالسرقات الشعرية إعداد غادة محمد عبد الراضي
السرقات الشعرية إعداد غادة محمد عبد الراضي
 
اهمية ملحمة جلجامش تاريخيا وفكريا وأدبيا
اهمية ملحمة جلجامش تاريخيا وفكريا وأدبيااهمية ملحمة جلجامش تاريخيا وفكريا وأدبيا
اهمية ملحمة جلجامش تاريخيا وفكريا وأدبيا
 
عرض تقديمي لعملية الجمع للاطفال ورياض الاطفال
عرض تقديمي لعملية الجمع للاطفال ورياض الاطفالعرض تقديمي لعملية الجمع للاطفال ورياض الاطفال
عرض تقديمي لعملية الجمع للاطفال ورياض الاطفال
 
عرض تقديمي دور مجتمعات التعليم في تحسين جودة الحياة الجامعية .pdf
عرض تقديمي دور مجتمعات التعليم في تحسين جودة الحياة الجامعية .pdfعرض تقديمي دور مجتمعات التعليم في تحسين جودة الحياة الجامعية .pdf
عرض تقديمي دور مجتمعات التعليم في تحسين جودة الحياة الجامعية .pdf
 
من قصص القرآن الكريم تحكي عن قصة سيدنا يونس عليه السلام وماذا فعل مع قومه بدو...
من قصص القرآن الكريم تحكي عن قصة سيدنا يونس عليه السلام وماذا فعل مع قومه بدو...من قصص القرآن الكريم تحكي عن قصة سيدنا يونس عليه السلام وماذا فعل مع قومه بدو...
من قصص القرآن الكريم تحكي عن قصة سيدنا يونس عليه السلام وماذا فعل مع قومه بدو...
 
عرض تقديمي تكليف رقم (1).الرسوم التعليمية
عرض تقديمي تكليف رقم (1).الرسوم  التعليميةعرض تقديمي تكليف رقم (1).الرسوم  التعليمية
عرض تقديمي تكليف رقم (1).الرسوم التعليمية
 

تدبر القرآن الكريم

  • 1. ‫ّ‬ ‫تدبر القرآن الكريم‬ ‫حقيقته وأهميته‬ ‫يف إصالح الفرد واجملتمع‬ ‫أ.د. عبد القادر سليماني.‬ ‫جامعة وهران، الجزائر.‬ ‫1‬
  • 2. ‫بسم اهلل الرحمن الرحيم.‬ ‫الحمد هلل والصالة والسالم على حممد بن عبد اهلل، وعلى آله األطهار وأصحابه األبرار، ومن تبعهم بإحسان‬ ‫إىل يوم الدين، وبعد:‬ ‫ال شك أن القرآن الكرمي، هو كتاب اهلل –تعاىل- ، نزل به الروح األمني على قلب حممد ‪ ‬بلسان عريب‬ ‫مبني، ال يأتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه، تنزيل من حكيم محيد، تكفل اهلل حبفظه، وتعبدنا بتالوته وتدبر‬ ‫آياته ومعانيه، فقال تعاىل : ﭽﮑﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﭼ محمد: ٢٤.‬ ‫مجع اهلل فيه خريي الدنيا واآلخرة، من متسك به جنا، ومن أعرض عنه فقد ضل وخسر، يقول سبحانه وتعاىل:‬ ‫ﭽﯫ ﯬ ﯭ ﯮﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺﯻ ﯼﯽ ﯾ‬ ‫ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭼ طه: ١٤٣ - ١٤٣.‬ ‫وتدبر القرآن الكريم، والوقوف عند معاين آياته وأحكامه، هو من األمور املهمات، وآثاره على مجيع‬ ‫املستويات جليات، إن على مستوى األفراد أو على مستوى اجملتمعات، وذلك يف مجيع اجملاالت، كإصالح‬ ‫االعتقاد، وتهذيب األخالق، وتشريع األحكام، وتحديد سياسات األمة، التي بها يتم صالحها وحفظ‬ ‫نظامها، اقتصاديا، وثقافيا، وصحيا، وتعليميا، واجتماعيا...، كل هذه املعاين وغريها، تدخل ضمن المقاصد‬ ‫و‬ ‫الجامعة للقرآن الكريم، يف تقومي حياة الناس إىل يوم الدين، قال اهلل تعاىل: ﭽ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬ ‫ﭦ ﭧ ﭨﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭼ اإلسراء: ٩.‬ ‫وال ريب، أن قيمة القرآن كته، تكمل يف تالوته، وتدبره، والعمل به، فما اللفظ وترتيله إال وسيلة يف إدراك‬ ‫وبر‬ ‫املعىن وحتصيله، وطلب اخلشوع، والتأثر به، وترمجة هذا التأثر إىل عمل.‬ ‫فما مفهوم تدبر القرآن الكريم، وما حقيقته؟ وما أهميته في إصالح الفرد والمجتمع؟‬ ‫ولإلجابة عن هذا األسئلة وغريها، ارتأيت أن أقسم البحث إىل متهيد وثالثة مباحث وخامتة، ومجلة من‬ ‫التوصيات.‬ ‫أما التمهيد: فتناولت فيه تعريف بعض المصطلحات المفتاحية، اليت هلا عالقة باملوضوع، كالتدبر،‬ ‫واإلصالح.‬ ‫2‬
  • 3. ‫وأما المبحث األول: فبينت فيه أن اإلسالم قد أمر بتدبر القرآن الكريم ورغب فيه، وذلك من خالل‬ ‫الكتاب والسنة النبوية.‬ ‫وأما المبحث الثاني: فتناولت فيه حقيقة تدبر القرآن الكريم.‬ ‫وأما المبحث الثالث: فتناولت فيه أهمية تدبر القرآن الكريم في إصالح الفرد والمجتمع.‬ ‫وأما الخاتمة: فذكرت فيها مجلة من النتائج اليت تضمنها هذا البحث، وبعض التوصيات اليت رأيت أهنا تفيد‬ ‫موضوع البحث خصوصا، وموضوع املؤمتر عموما.‬ ‫واهلل ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل.‬ ‫3‬
  • 4. ‫التمهيد:‬ ‫التعريف ببعض المصطلحات المفتاحية.‬ ‫أوال: تعريف التدبر:‬ ‫1-معنى التدبر في اللغة:‬ ‫ُّبُر و ُّبْر نقيض القبُل، ودبُر كل شيء عقبُه ومؤخره، ومجعهما أَدبار، ودبُر كل شيء خالف قُبُله، وهو‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُُ‬ ‫َ ُ َّ ُ‬ ‫ُُ‬ ‫الد ُ الد ُ‬ ‫النظر يف عاقبة األمر والتفكر فيه، وتدبر الكالم: النظر يف أوله وآخره ، مث إعادة النظر مرة بعد مرة ؛ وهلذا جاء‬ ‫ع والتفهم والتبني ؛ ولذلك قيل : إنه مشتق من النظر يف أدبار األمور، وهي أواخرها‬ ‫على وزن التفعل كالتجر‬ ‫وعواقبها، ومنه تدبر القول ،كما يف قوله تعاىل : ﭽ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﭼ‬ ‫المؤمنون: ٦٨.‬ ‫(1)‬ ‫2-معنى تدبر القرآن الكريم:‬ ‫هو تفهم معاين ألفاظه ، والتفكر فيما تدل عليه آياته مطابقة ، وما دخل يف ضمنها وما ال تتم تلك املعاين إال‬ ‫به، مما مل ج اللفظ على ذكره من اإلشارات والتنبيهات، وانتفاع القلب بذلك خبشوعه عند مواعظه، وخضوعه‬ ‫يعر‬ ‫ألوامره، وأخذ العربة منه، كل هذه املعاين حاضرة يف أقوال أهل العلم، وعلى رأسهم من املفسرين:‬ ‫و‬ ‫قال الطبري يف قوله تعاىل : ﭽﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ص: ٩٤ ، " أي‬ ‫ليتدبروا حجج اهلل اليت فيه، وما ع اهلل فيه من الشرائع، فيتعظوا ويعملوا به ".‬ ‫شر‬ ‫(2‬ ‫وقال أبو بكر ابن طاهر: " تدبر يف لطائف خطابه، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه، وقلبك بفهم معانيه،‬ ‫وسرك باإلقبال عليه ".‬ ‫َّ‬ ‫(‬ ‫1- لسان العرب، حممد بن مكرم بن منظور األفريقي املصري ، دار صادر – بريوت، ط1، (د ت)، (4/262)، وخمتار الصحاح،‬ ‫زين الدين الرازي (1/691)، والقاموس احمليط، الفريوز آبادي (1/204- 04)، تاج العروس من جواهر القاموس، حممد بن‬ ‫حممد بن عبد الرزاق احلسيين، أبو الفيض، امللقب مبرتضى، الزبيدي، (1/6022).‬ ‫َّ‬ ‫2- تفسري القرآن العظيم، أبو الفداء إمساعيل بن عمر بن كثري القرشي الدمشقي، احملقق:سامي بن حممد سالمة، دار طيبة للنشر‬ ‫والتوزيع، ط2، 0241ه - 9991م، (12/091).‬ ‫ جلامع ألحكام القرآن، أبو عبد اهلل حممد بن أمحد بن أيب بكر بن ح األنصاري اخلزرجي مشس الدين القرطيب، احملقق: هشام‬‫فر‬ ‫مسري البخاري، دار عامل الكتب، الرياض، اململكة العربية السعودية، 241ه - 002م، (91/2 ).‬ ‫4‬
  • 5. ‫وقال الهروي: " أبنية الذكر ثالثة: االنتفاع بالعظة، واالستبصار بالعربة، والظفر بثمرة الفكرة ".‬ ‫(1‬ ‫وقال األلوسي: " وأصل التدبر : التأمل يف أدبار األمور وعواقبها، مث استُعمل يف كل تأمل سواء كان نظرا يف‬ ‫حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه ".‬ ‫(2‬ ‫ويُستفاد من كالم العلماء في معنى التدبر، أن التدبر في القرآن يشمل األمور اآلتية:‬ ‫معرفة معاين األلفاظ وما يُراد هبا.‬‫تأمل ما تدل عليه اآلية أو اآليات مما يُفهم من السياق أو كيب اجلمل.‬‫تر‬ ‫ُّ‬ ‫اعتبار العقل حبججه، وحترك القلب ببشائره وزواجره.‬‫اخلضوع ألوامره، واليقني بأخباره.‬‫ويتلخص من ذلك أن التدبر: هو التفكر، والتأم ل الذي يبلغ به صاحبه معرفة املراد من املعاين، وإمنا يكون‬ ‫ذلك يف كالم قليل اللفظ كثري املعاين اليت أُودعت فيه ، حبيث كلما ازداد املتدبر تدبرا، انكشفت له معان مل تكن‬ ‫بادية له بادئ النظر.‬ ‫(‬ ‫ثانيا: تعريف اإلصالح:‬ ‫1-اإلصالح لغة:‬ ‫الصالح على خالف الفساد، والصالح والصلوح مبعىن واحد، فهو يصلح صالحا وصلوحا، فهو صاحل،‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫(4‬ ‫وصليح، واجلمع صلحاء وصلوح.‬ ‫ُ‬ ‫واإلصالح نقيض اإلفساد واملصلحة الصالح، واالستصالح نقيض االستفساد، وأَصلَح الشيءَ بعد فساده‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫أَقامه، وأَصلَح الدابة أَحسن إليها فَصلَحت، والصلح تَصاحل القوم بينهم، والصلح السلم، وقد اصطَلَحوا وصاحلوا‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ُّ ُ‬ ‫َ‬ ‫1- مفتاح دار السعادة ومنثور والية العلم واإلرادة، دار الكتب العلمية، بريوت، (1/ 21).‬ ‫2- روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين، حممود األلوسي أبو الفضل، دار إحياء الرتاث العريب-بريوت، (4/051).‬ ‫ التحرير والتنوير، حممد الطاهر بن عاشور التونسي، مؤسسة التاريخ العريب، بريوت،ط1، 0241ه ،0002م، ( 2/241).‬‫4- لسان العرب، ابن منظور، (2/615)، التحرير والتنوير، ابن عاشور، (2/212)، والقاموس احمليط (1/122)، والصحاح يف‬ ‫اللغة، اجلوهري، (1/ 9 ).‬ ‫5‬
  • 6. ‫واصلَحوا وتَصاحلوا واصاحلوا مبعىن واحد، وقوم صلُوح متصاحلُون، كأَهنم وصفوا باملصدر، والصالح بكسر الصاد‬ ‫َّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫مصدر املصاحلة.‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وقوبل الصالح يف القرآن، تارة بالسيئة، كما يف قوله تعاىل: ﭽﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ‬ ‫ﭼ التوبة: ٤٠٣ ، وتارة بالفساد، كما يف قوله تعاىل: ﭽ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭼ‬ ‫يونس: ٣٦ ، ومها خمتصان يف أكثر االستعمال باألفعال.‬ ‫2-اإلصالح اصطالحا:‬ ‫ً‬ ‫عرف العلماء الصالح بعدة تعريفات وهي:‬ ‫أن الصالح: هو سلوك طريق اهلدى.‬ ‫وقيل:هو استقامة احلال على ما يدعو إليه العقل.‬ ‫وقيل:هو استقامة احلال على ما يدعو إليه العقل و ع.‬ ‫الشر‬ ‫وقيل: هو استقامة األعمال وطهارة النفس.‬ ‫(1‬ ‫التعريف المختار لإلصالح:‬ ‫ومن خالل النظر يف هذه التعريفات، جند أهنا متقاربة، وميكن اجلمع بينها بتعريف شامل، وهو: أن الصالح‬ ‫سلوك طريق اهلدى، واستقامة احلال على ما يدعو إليه العقل و ع.‬ ‫الشر‬ ‫والعالقة بني املعىن اللغوي واالصطالحي وثيقة بينهما، حيث يتبني من املعىن االصطالحي أن اهلدف من‬ ‫اإلصالح هو استقامة اإلنسان على طريق اهلدى، كما يدعو لذلك العقل و ع، وهذا ما تبني من املعىن‬ ‫الشر‬ ‫اللغوي.‬ ‫المبحث األول:‬ ‫األمر بتدبر القرآن الكريم والترغيب فيه،‬ ‫من خالل نصوص الكتاب والسنة النبوية.‬ ‫ال شك أن النصوص الشرعية، جاءت دالة على االعتناء بالقرآن الكرمي، اعتناء خاصا، بغرض االنقياد حلكمه،‬ ‫واإلقبال على أحكامه، واملشي خلفه، من خالل اتباع منهج خاص، يف التعامل مع القرآن الكرمي، تالوة، وتدبرا.‬ ‫1- ابن عاشور، املصدر نفسه، ( /001).‬ ‫6‬
  • 7. ‫أوال: األمر بالتدبر والترغيب فيه، في ضوء القرآن الكريم:‬ ‫ال شك أن القرآن الكرمي، قد أشاد بكل األلفاظ والصيغ اليت جاءت يف إطار التدبر والتأمل، مبا يفيد األمر‬ ‫والرتغيب فيه، بلفظ صريح:‬ ‫كما يف قوله تعاىل : ﭽﭻ ﭼﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇﮈ ﮉ ﭼ النساء: ٤٦‬ ‫وقوله تعاىل : ﭽﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ص: ٩٤.‬ ‫وقوله تعاىل : ﭽﮑﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﭼ محمد: ٢٤.‬ ‫وقوله تعاىل : ﭽ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﭼ المؤمنون: ٦٨.‬ ‫ومعىن ﴿يتدبَّرون القرآن﴾، أي يتأملون داللته، وذلك حيتمل معنيني: أحدمها أن يتأملوا داللة تفاصيل آياته على‬ ‫مقاصده اليت أرشد إليها املسلمني، أي تدبر تفاصيله؛ وثانيهما أن يتأملوا داللة مجلة القرآن ببالغته، على أنه من‬ ‫عند اهلل، وأن الذي جاء به صادق.‬ ‫(1‬ ‫وبألفاظ غري صرحية، حتمل يف مضامينها مفهوم التدبر، كالتفقه، والتعقل، والتبصر، والتفكر، والتذكر، وغري‬ ‫ذلك من املفردات، والصيغ اليت مفادها التدبر والتأمل يف آيات القرآن الكرمي:‬ ‫كقوله تعاىل : ﭽﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢﯣﯤ ﭼ األنعام: ١٨.‬ ‫وقوله تعاىل : ﭽﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﭼ النحل: ٤٣.‬ ‫وقوله تعاىل : ﭽﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭼ النحل: ٢٢.‬ ‫وقوله تعاىل : ﭽ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﭼ الزمر: ٢٤.‬ ‫وقد تضمنت هذه اآليات وجوب التدبر، وقد أشار إىل ذلك احلافظ ابن كثير -رمحه اهلل تعاىل- ، حيث قال‬ ‫: "يقول تعاىل آمرا عباده بتدبر القرآن، وناهيا هلم عن اإلعراض عنه، وعن تفهم معانيه احملكمة وألفاظه البليغة،‬ ‫وخمربا هلم أنه ال اختالف فيه وال اضطراب، وال تضاد وال تعارض؛ ألنه تنزيل من حكيم محيد، فهو حق من‬ ‫حق".‬ ‫(2‬ ‫1- التحرير والتنوير، ابن عاشور، ( / 24).‬ ‫2- تفسري ابن كثري (2/46 ).‬ ‫7‬
  • 8. ‫كما تضمنت هذه اآليات التوبيخ واإلنكار على من أعرض عن تدبر كتاب اهلل، وقد ذم جل وعال املعرض‬ ‫عن هذا القرآن العظيم، يف آيات كثرية، منها قوله تعاىل: ﭽ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﭼ الكهف: ٢١‬ ‫، وقوله تعاىل: ﭽﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭼ السجدة: ٤٤.‬ ‫ومعلوم أن كل من مل يشتغل بتدبر آيات القرآن العظيم، أي تصفحها وتفهمها، وإدراك معانيها، والعمل هبا،‬ ‫فإنه معرض عنها، غير متدبر لها، فيستحق اإلنكار والتوبيخ املذكورين يف اآليات، إن كان اهلل أعطاه فهما يقدر‬ ‫ُ‬ ‫به على التدبر.‬ ‫وقد شكا النيب ‪ ‬إىل ربه من هجران قومه هذا القرآن، كما جاء يف قوله تعاىل : ﭽﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ‬ ‫ﯝ ﯞﯟﯠ ﯡ ﭼ الفرقان: ٠١.‬ ‫وذكر أهل التفسري: أن ترك تدبره وتفهمه، هو من هجرانه، وترك اإلميان به وتصديقه، والعمل به، وامتثال‬ ‫أوامره واجتناب زواجره، هو من هجرانه، والعدول عنه إىل غريه من شعر أو قول أو غناء أو هلو أو كالم أو طريقة‬ ‫ُ‬ ‫أو منهج مأخوذ من غريه، من أيضا يعترب من هجرانه.‬ ‫(1‬ ‫ثانيا: األمر بالتدبر والترغيب فيه، في ضوء السنة النبوية، وعمل السلف:‬ ‫1-ال شك أن النبي ‪ ، ‬كانت له مع تدبر القرآن الكريم أخالقيات عالية وراقية، سجلتها سريته العطرة‬ ‫وسنته الطاهرة ‪ ، ‬كيف ال! وهو القدوة واألسوة احلسنة للبشرية قاطبة وإىل يوم الدين، يف مجيع كاته‬ ‫حر‬ ‫وسكناته، وباخلصوص يف تعامله مع القرآن، تالوة واستماعا وتدبرا، ومن ذلك:‬ ‫ما رواه ع ْبد اللَّه بن مسعود ‪ ‬قَال: قَال ِل النَّيب ‪ ( : ‬اقْ رأْ علَي الْقرآن )، قُ ْلت: آقْ رأُ علَْيك وعلَْيك‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َّ ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َ َ ََ َ‬ ‫ُّ‬ ‫أُنْزل؟! قَال: ( إين أُحب أَن أَمسَعهُ من غريي ).‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ ْ ْ َ ْ َ ْ‬ ‫(2‬ ‫قال ابن بطال -رمحه اهلل-:"حيتمل أن يكون كي يتدبره ويفهمه، وذلك أن املستمع أقوى".‬ ‫(‬ ‫1- ابن كثري، املصدر نفسه، (6/201) ، وجامع البيان يف تأويل القرآن، حممد بن جرير بن يزيد بن كثري بن غالب اآلملي، أبو‬ ‫جعفر الطربي، احملقق:أمحد حممد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 0241ه -0002م،(91/462)، وتفسري القرطيب ( 1/22)،‬ ‫معامل التنزيل، أبو حممد احلسني بن مسعود البغوي، احملقق:حققه ج أحاديثه حممد عبد اهلل النمر-عثمان مجعة ضمريية-‬ ‫وخر‬ ‫سليمان مسلم احلرش، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2141،4 ه -2991م، (6/22).‬ ‫2- رواه البخاري يف صحيحه (ح:1664، 51/224).‬ ‫ ح صحيح البخاري ، أبو احلسن علي بن خلف بن عبد امللك بن بطال البكري القرطيب، حتقيق: أبو متيم ياسر بن إبراهيم‬‫شر‬ ‫مكتبة الرشد، الرياض، ط2، 241ه - 002م، (01/222).‬ ‫8‬
  • 9. ‫ما رواه أبو ذر ‪ ، ‬قال: قَام الَّبي ‪ ، ‬حّت أَصَح، بآيَة، واآليَ ُ ﭽ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ‬‫َْ ة‬ ‫َ ن‬ ‫َ َّ ْ ب َ‬ ‫ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﭼ المائدة: ٦٣٣.‬ ‫(1‬ ‫( )‬ ‫-وعن جندب، بلغه عن حذيفة أو مسعه عن النبي ‪": ‬ذكر ناسا يقرءون القرآن، ينثرونه نثر الدقل 2 ،‬ ‫يتأولونه على غري تأويله".‬ ‫( )‬ ‫َّ‬ ‫قال المبار كفوري:" أي يرمون بكلماته من غري روية وتأمل،كما يرمى الدقَل، بفتحتني، وهو رديء التمر، فإنه‬ ‫لرداءته ال حيفظ، ويلقى منثورا ...وقال النووي: معناه أن قوما يقرأون، وليس حظهم من القرآن إال مروره على‬ ‫اللسان، فال جياوز تراقيهم ليصل قلوهبم، وليس ذلك هو املطلوب، بل المطلوب تعقله وتدبره، بوقوعه في‬ ‫القلب".‬ ‫(4)‬ ‫- وعن عائشة أنه ذُكر هلا أن ناسا يقرؤون القرآن يف الليل مرة أو مرتني، فقالت: أولئك قرؤوا ومل يقرؤوا، كنت‬ ‫أقوم مع النبي ‪ ‬ليلة التمام، فكان يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء، فال مير بآية فيها ختوف إال دعا اهلل‬ ‫واستعاذ، وال مير بآية فيها استبشار إال دعا اهلل ورغب إليه.‬ ‫(5)‬ ‫قال الصنعاني :"احلديث دليل على أنه ينبغي للقارئ يف الصالة تدبر ما يقرؤه، وسؤال رمحته واالستعاذة من‬ ‫عذابه".‬ ‫(6)‬ ‫وعن أبي هريرة ‪ ‬عن النيب ‪ ‬قال: (...وما اجتمع قوم يف بيت من بيوت اهلل، يتلون كتاب اهلل،‬‫ويتدارسونه بينهم، إال نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرمحة، وحفتهم املالئكة، وذكرهم اهلل فيمن عنده... ).‬ ‫(2)‬ ‫1- رواه يف السنن، ابن ماجة، (ح:04 1، 4/162)، والنسائي (ح:0001، 4/221)، وأمحد يف مسنده (ح:56 02،‬ ‫4، 1 )، املستدرك على الصحيحني، حممد بن عبداهلل أبو عبداهلل احلاكم النيسابوري، حتقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار‬ ‫الكتب العلمية، بريوت، ط1، 1141ه -0991م، (ح:542، 2/104)، وقال:صحيح ومل خيرجاه، ووافقه الذهيب، وصححه‬ ‫األلباين يف مشكاة املصابيح، (5021).‬ ‫َّ‬ ‫2- والدقَل: الرديء اليابس من التمر، واملراد أن القارئ يرمي بكلمات القرآن من غري رؤية وتأمل،كما يتساقط الدقل من العذق‬ ‫إذا هز، أنظر: النهاية يف غريب احلديث واألثر، أبو السعادات املبارك بن حممد اجلزري، حتقيق : طاهر أمحد الزاوي - حممود حممد‬ ‫ُ‬ ‫الطناحي، املكتبة العلمية- بريوت، 99 1ه -9291م، (2/992)، واللسان، البن منظور (11/642).‬ ‫ األحاديث املرفوعة من التاريخ الكبري، للبخاري، (ح:452، 2/652).‬‫4- حتفة األحوذي ح جامع الرتمذي، حممد عبد الرمحن بن عبد الرحيم املبار كفوري أبو العال، دار الكتب العلمية، بريوت،‬ ‫بشر‬ ‫( /221).‬ ‫5- رواه أمحد يف مسنده، (ح:264 2، 05/421).‬ ‫6- سبل السالم، حممد بن إمساعيل األمري الكحالين الصنعاين، مكتبة مصطفى البايب احلليب، ط4، 92 1ه -0691م.‬ ‫2- رواه مسلم يف صحيحه (ح:2624، 1/212).‬ ‫9‬
  • 10. ‫واملعىن أهنم يقرؤون كتاب اهلل، سواء أكانت هذه القراءة بأن يقوم شخص ويقرأ ويفسر أو غريه يفسر، أم أهنم‬ ‫جيتمعون حبيث يقرأ واحد منهم مقدارا من القرآن ويستمع الباقون، ويكون هناك شخص يصوب قراءته ويبني ما‬ ‫(1)‬ ‫عليه من مالحظات، كل ذلك يدخل حتت التدارس، كذلك تأمل ما فيه، ومعرفةُ ما فيه، وتدبر ما فيه.‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫( )‬ ‫وعن أبي وائل، قَال: جاءَ رجل إىل ابْن مسعُود، فَقال: قَرأْت الْمفصل اللَّْي لَةَ يف كعة، فَقال: هذا 2 كهذ‬‫َ َ َُ َ‬ ‫َْ‬ ‫رْ َ َ َ َ ًّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُ ُ َ َّ َ‬ ‫الشعر، لَقد عرفْت النَّظَائر الَّيت كان النَّبي ‪ ‬يَقرن بَْي نَ هن، فَذكر عشرين سورة من الْمفصل، سورتَني يف كل‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ُ ُ ُ َّ َ َ َ ْ َ ُ َ ْ ُ َ َّ ُ َ ْ‬ ‫ْ َ ْ ََ ُ‬ ‫َ‬ ‫( )‬ ‫كعة".‬ ‫رْ َ‬ ‫َ‬ ‫قال النووي:"إن هذا كان قدر قراءته ‪ ‬غالبا، وأن تطويله الوارد، إمنا كان يف التدبر والترتيل".‬ ‫(4)‬ ‫(5)‬ ‫وقال العيني:"ويستفاد منه النهي عن الهذ، وفيه احلث على الترسل والتدبر، وبه قال مجهور العلماء".‬ ‫ُّ‬ ‫وقال الحافظ ابن حجر:"ويف هذا احلَديث من الْفوائد، كراهةُ اإلفْ راط في سرعة التالوة ؛ ألَنَّهُ يُنَافي‬ ‫َ ََ ْ‬ ‫ُْ َ َ َ‬ ‫ْ ََ‬ ‫ََ َ ْ َ‬ ‫الْمطْلُوب من التَّدبر والتَّ فكر يف معاين الْقرآن، وفيه أن الترتيل أفضل من الهذ ؛ إذ ال يصح التدبر مع‬ ‫َ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ َ ُْ‬ ‫اهلذ".‬ ‫(6‬ ‫َ ُّ‬ ‫وعن أنَس ‪ ، ‬أنَّهُ سئل عن قراءَةُ النَّبى ‪ ، ‬فَقال:كان ميد م ًّا، مثَّ قَرأَ : ﴿بسم اللَّه الرمحَن الرحيم﴾، ميُد‬‫َّ ْ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ َ َد ُ َ‬ ‫َ‬ ‫(2‬ ‫ببسم اللَّه، وميُد بالرمحَن، وميُد بالرحيم".‬ ‫َ َ ُّ َّ ْ َ َ ُّ َّ‬ ‫ْ‬ ‫2‬ ‫قال ابن بطال:" فكان يقرؤه على مهل ؛ ليبني ألمته كيف يقرؤون، كيف يمكنهم تدبر القرآن وفهمه".‬ ‫و‬ ‫وعن أَبي ع ْبد الرحمن السلمي، قال:ح َّثَنَا الَّذين كانُوا يُقرئُونَنَا الْقرآن، عُثْمان بْن عفان وع ْبد اللَّه بْن‬‫َد‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ ُ‬ ‫َ َّ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُْ َ َ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫مسعُود، أَنَّهم قَالُوا:"كنَّا إذا تَعلَّمنَا من النَّبي ‪ ‬عشر آيَات، ملْ جنَاوزها حّت نَتَ علَّم ما فيها من الْع ْلم والْعمل"،‬ ‫َْ‬ ‫َ ُ ْ َ َ َّ َ َ َ َ ْ‬ ‫ُ َ َْ ْ‬ ‫ُْ‬ ‫َ ََ‬ ‫َ َْ‬ ‫1‬ ‫قَالُوا:"فَتَ علَّمنَا الْق ْرآن والْع ْلم والْعمل مجيعا".‬ ‫َ ْ ُ َ َ َ َ ََ َ َ‬ ‫1- حتفة األحوذي، املبار كفوري أبو العال، (2/512-612).‬ ‫َّ‬ ‫2- وقوله"هذا":بفْتح اهلَاء وتَشديد الذال الْمعجمة، أَي سردا وإفْ راطا يف الس ْرعة، أنظر فتح الباري، احلافظ ابن حجر‬ ‫َ ْ َ ْ‬ ‫ُّ َ‬ ‫ُْ ََ‬ ‫ْ َْ َ َ‬ ‫( /151)، وقال ابن رجب احلنبلي:"هو متابعة القراءة يف سرعة، كرهه ابن مسعود ملا فيه من قلة التدبر ملا يقرءوه"، أنظر فتح‬ ‫و‬ ‫الباري ح صحي ح البخاري، زين الدين أيب ج عبد الرمحن ابن شهاب الدين البغدادي مث الدمشقي الشهري بابن رجب، دار‬ ‫الفر‬ ‫شر‬ ‫ابن اجلوزي– السعودية، الدمام- 2241ه ، (4/224).‬ ‫الطبعة : الثانية ، حتقيق : أبو معاذ طارق بن عوض اهلل بن حممد‬ ‫ متفق عليه، رواه البخاري يف صحيحه، (ح: 22، /4 2)، ومسلم يف صحيحه، (ح:16 1، 4/262).‬‫4- ح صحيح مسلم، النووي، (6/501).‬ ‫شر‬ ‫5- عمدة القاري ح صحيح البخاري، بدر الدين العيين احلنفي، (9/612).‬ ‫شر‬ ‫6- فتح الباري، احلافظ ابن حجر ( /151).‬ ‫2-رواه البخاري يف صحيح، (ح:2564، 51/664).‬ ‫2- ح صحيح البخاري، البن بطال، (91/16 ).‬ ‫شر‬ ‫01‬
  • 11. ‫أي: أهنم كانوا يتعلمون العلم والعمل مجيعا، فيكونون بذلك قد مجعوا بني العلم والفقه، وبني معرفة أحكامه وما‬ ‫اشتمل عليه، فيجمعون العلم والعمل، وال شك أن ذلك ال يكون إال بالتدبر والتأمل والفهم.‬ ‫2‬ ‫وعن ابن عباس يف قوله تعاىل : ﭽ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﭼ القيامة: ٨٣ ، كان رسول اهلل ‪ ‬إذا نزل‬‫جربيل بالوحي، كان مما حيرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه" .‬ ‫و‬ ‫وفيه دليل على وجوب ترتيل القراءة والرتسل فيها من غري هذرمة وال سرعة مفرطة، بل بتأمل وتفكر وتدبر،‬ ‫َ َْ‬ ‫قال اهلل تعاىل: ﭽﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ص: ٩٤.‬ ‫4‬ ‫2-وهذه بعض أخبار وأحوال السلف مع تدبر القرآن:‬ ‫فكما سجل لنا التاريخ اإلسالمي، حياة النيب ‪ ‬مع تدبر القرآن، فقد سجل لنا أيضا وقفات وأحواال‬ ‫وأخبارا، لسلفنا الصالح، مع تدبر القرآن، ومن ذلك:‬ ‫ما روي عن مسروق قال: قال ِل رجل من أهل مكة : هذا مقام أخيك متيم الداري، لقد رأيته ذات ليلة حّت‬ ‫أصبح، أو قَرب أن يصبح يقرأ بآية من القرآن كع فيها ويسجد ويبكي ﭽ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ‬ ‫ير‬ ‫َُ‬ ‫ﯦ ﯧ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﭼ الجاثية: ٣٤.‬ ‫5‬ ‫وعن أبي حمزة -رمحه اهلل- : قلت البن عباس ‪ : ‬إين سريع القراءة، أقرأ القرآن يف مقام، فقال ابن عباس‬ ‫رضي اهلل عنهما-:"ألن أقرأ البقرة فأرتلها وأتدبَّرها أحب إِل من أن أقرأ القرآن كما تقول"، ويف رواية: "ألن أقرأ‬‫البقرة يف ليلة أتدبرها وأفكر فيها أحب إِل من أن أقرأ القرآن كله يف ليلة".‬ ‫6‬ ‫وعن أبي وائل قال: جاء رجل إىل عبد اهلل، فقال: إين قرأت املفصل البارحة، فقال عبد اهلل: هذا كهذ الشعر،‬ ‫ونثرا كنثر الدقل، إين أفصل لتفصلوه، ولقد علمت النظائر اليت كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقرأ سورتني‬ ‫يف كعة".‬ ‫ر‬ ‫2‬ ‫1- جمموع الفتاوى، تقي الدين أبو العباس أمحد بن عبد احلليم بن تيمية احلراين، احملقق: أنور الباز-عامر اجلزار، دار الوفاء،‬ ‫ط ، 6241ه -5002م، (1/ 0 ).‬ ‫2- ح سنن أيب داود، عبد احملسن العباد، (21/201).‬ ‫شر‬ ‫ أخرجه البخاري برقم (9294) 6/ 61 ، ومسلم برقم (244) 1/0 .‬‫4- تفسري ابن كثري، (1/22).‬ ‫5- املعجم الكبري، الطرباين، (ح:6 21، 2/14)، والزهد أليب داود، (ح:92 ، 1/214).‬ ‫6- خمتصر قيام الليل، حملمد بن نصر املروزي، (1/512).‬ ‫2- شعب اإلميان، أبو بكر البيهقي، دار الكتب العلمية، بريوت، ط41، 0141ه .‬ ‫11‬
  • 12. ‫وعن سعيد بن عبيد قال: رأيت سعيد بن جبير، وهو يؤمهم يف رمضان، يردد هذه اآلية : ﭽ ﮖ ﮗ ﮘ‬ ‫ﮙﮚﮛ ﮜ ﭼ غافر: ٣٢ ، وﭽﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭼ االنفطار: ٨ ، يرددها‬ ‫1‬ ‫مرتني أو ثالثا".‬ ‫وروي عن محمد بن كعب القرظي ‪ ‬يقول : " ألن أقرأ ﴿إذَا زلْزلَت﴾ و﴿الْقارعةُ﴾ ليلة أرددمها وأتفكر‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫2‬ ‫ُّ‬ ‫فيهما، أحب إِل من أن أبيت أهذ القرآن".‬ ‫َّ‬ ‫وسئل مجاهد عن رجلني قرأ أحدمها البقرة، وقرأ اآلخر البقرة وآل عمران، فكان كوعهما وسجودمها وجلوسهما‬ ‫ر‬ ‫سواء، أيهما أفضل ؟ قال الذي قرأ البقرة، مث قرأ جماهد : ﭽ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬ ‫)‬ ‫ﭼ اإلسراء: ٨٠٣ ، واآلثار يف شأن السلف مع تدبر القرآن الكرمي كثرية، نكتفي هبذه اإلملاحة اليسرية.‬ ‫وقال الحسن بن علي -رضي اهلل عنهما- :" إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من رهبم فكانوا يتدبروهنا‬ ‫بالليل ، ويتفقدوهنا يف النهار".‬ ‫4‬ ‫وقال عبد اهلل بن عمرو: " لقد عشنا دهرا طويال، وإن أحدنا يؤتى اإلميان قبل القرآن، فتنزل السورة على حممد‬ ‫‪ ، ‬فنتعلم حالهلا وحرامها وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها ، مث لقد رأيت رجاال يؤتى أحدهم‬ ‫القرآن قبل اإلميان، فيقرأ ما بني فاحتة الكتاب إىل خامتته، ال يدري ما آمره وال زاجره وما ينبغي أن يقف عنده‬ ‫منه، ينثره نثر الدقل".‬ ‫5‬ ‫وقال النووي -رمحه اهلل- ، يف اإلرشاد إىل تدبر القرآن، عما كان عليه من أحوال السلف:‬ ‫"وقد كانت للسلف عادات خمتلفة فيما يقرءون كل يوم، حبسب أحواهلم وأفهامهم ووظائفهم، فكان بعضهم‬ ‫خيتم القرآن يف كل شهر، وبعضهم يف عشرين يوما، وبعضهم يف عشرة أيام، وبعضهم أو أكثرهم يف سبعة، كثري‬ ‫و‬ ‫منهم يف ثالثة...والمختار أنه يستكثر منه ما ميكنه الدوام عليه، وال يعتاد إال ما يغلب على ظنه الدوام عليه، يف‬ ‫حال نشاطه وغريه، هذا إذا مل تكن له وظائف عامة أو خاصة، يتعطل بإكثار القرآن عنها، فإن كانت له وظيفة‬ ‫1- رواه عبد الرزاق يف مصنفه (ح:6914، 2/294).‬ ‫2- رواه ابن أيب شيبة يف مصنفه، (ح:9، 2/204).‬ ‫ رواه ابن أيب شيبة يف مصنفه، (ح:21، 2/ 04).‬‫4- إحياء علوم الدين، حممد بن حممد الغزاِل أبو حامد، دار املعرفة، بريوت، (1/522).‬ ‫5- املستدرك على الصحيحني ج1/ص19 (101)، سنن البيهقي الكربى ج /ص021( 205) .‬ ‫21‬
  • 13. ‫عامة كوالية وتعليم وحنو ذلك، فليوظف لنفسه قراءة ميكنه احملافظة عليها، مع نشاطه وغريه، من غري إخالل‬ ‫1‬ ‫بشيء من كمال تلك الوظيفة، وعلى هذا حيمل ما جاء عن السلف".‬ ‫ُ‬ ‫وجملة القول: فهذه اآليات القرآنية، والنصوص الحديثية، وما ثبت من ذلك يف وقائع سير السلف‬ ‫الصالح، يدل على أن تدبر القرآن، وتفهمه، وتعلمه، والعمل به، أمر استُقر عليه يف القرون الثالثة األولى‬ ‫املشهود هلا باخلريية، وهو ال بد منه للمسلمين يف كل زمان ومكان، وأن ثواب قراءة الرتتيل والتدبر أجل وأرفع‬ ‫ُّ ُ‬ ‫قدرا.‬ ‫2‬ ‫وقد بني النبي ‪ ‬أن املشتغلني بذلك، هم خير الناس، كما ثبت عنه ‪ ‬من حديث عثمان ‪ ‬أنه قال:‬ ‫" كم من تعلم القرآن وعلمه" ، وقال تعاىل : ﭽ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ‬ ‫خير‬ ‫ﮆﮇ ﮈﮉ‬ ‫ﮊ ﮋ ﭼ آل عمران: ٩٢.‬ ‫فإعراض كثري من الناس عن التدبر في كتاب اهلل –تعالى- ، والنظر فيه، وتفهمه، والعمل به، وبالسنة الثابتة‬ ‫املبينة له، يف مجيع اجملاالت احليوية، اجتماعيا، واقتصاديا، وتربويا، وثقافيا، وسياسيا، وما إىل ذلك من األمور اليت‬ ‫حتتاج إليها األمة، أفرادا ومجاعات، هو من أعظم املناكر وأشنعها، وإن ظن فاعلوه أهنم على هدى، باتباعهم‬ ‫4‬ ‫مناهج غربية علمانية مستوردة، واهلل املستعان.‬ ‫1- ح صحيح مسلم، للنووي، (4/021).‬ ‫شر‬ ‫2-زاد املعاد يف هدي خري العباد، مشس الدين ابن قيم اجلوزية، مؤسسة الرسالة، بريوت-مكتبة املنار اإلسالمية، الكويت،‬ ‫ط22، 5141ه /4991م.‬ ‫ رواه البخاري يف صحيحه (ح:9 64، 51/9 4).‬‫4- أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن، حممد األمني بن حممد املختار بن عبد القادر اجلكين الشنقيطي، دار الفكر، بريوت،‬ ‫5141ه - 5991م، (2/25 ).‬ ‫31‬
  • 14. ‫المبحث الثاني:‬ ‫حقيقة تدبر القرآن الكريم.‬ ‫ال شك أن الواجب، لبلوغ حقيقة1 التدبر، على من خصه اهلل حبفظ كتابه، أن يتلوه حق تالوته، ويتدبر‬ ‫َ‬ ‫2‬ ‫حقائق عبارته، ويتفهم عجائبه، ويتبني غرائبه.‬ ‫أوال: تكمن حقيقة التدبر يف الحقائق املرجوة واملقصودة منه، وتتمثل أصال يف بيان مراد اهلل –تعالى- من إنزاله‬ ‫القرآن الكرمي، وقد تقدمت النصوص يف ذلك ، واملتتبع لآليات اخلاصة هبذا الشأن، وأخص بالذكر آيات البيان‬ ‫وآيات التدبر، تتجلى لديه حقيقة التدبر األساسية، اليت تكشف لنا عن حكمتين من حكم إنزال القرآن على‬ ‫َ‬ ‫النيب ‪ ، ‬كما بني أهل العلم خلفا وسلفا:‬ ‫الحكمة األولى: أن اهلل ‪ ‬أنزل القرآن على نبيه ‪ ، ‬ليبين للناس ما نُزل إليهم يف هذا الكتاب، من‬ ‫األحكام الشرعية، والوعد والوعيد، وحنو ذلك.‬ ‫ومن اآليات يف هذا الشأن، قوله تعاىل : ﭽ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬ ‫ﭼ وقوله: ﭽ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﭼ النحل:‬ ‫٢٨.‬ ‫4‬ ‫والحكمة الثانية: هي التدبر والتفكر يف آيات اهلل واالتعاظ هبا، والتأمل يف أحكامها ومقاصدها، والعمل مبا‬ ‫جاء فيها تقربا إىل رضى اهلل –تعاىل-.‬ ‫1- احلَقيقةُ ما يصري إليه حق األمر ووجوبُه، وبلغ حقيقةَ األمر أي يَقني شأنه، وهي الثبات واالستقرار والقطع واليقني وخمالفة‬ ‫َ ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫اجملاز، وتتناقض احلقيقة مع الكذب والغلط والوهم والظن والشك والتخمني والرأي واالعتقاد والباطل، ويف احلديث:"ال يبلُغ املؤمن‬ ‫حقيقةَ اإلميان حّت ال يَعيب مسلما بعْيب هو فيه"، يعين خالص اإلميان وحمضه كْن هه، أنظر لسان العرب (حقق)، (01/94)،‬ ‫َْ َ وُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وغريب احلديث البن األثري (1/5101).‬ ‫2-تفسري القرطيب، 1/2.‬ ‫ انظر املبحث األول: األمر والرتغيب يف تدبر القرآن، من الكتاب والسنة، ص:6، من هذا البحث.‬‫4- أضواء البيان، حممد األمني الشنقيطي، ( /01)، وتفسري القرطيب، (01/901)، وفتح القدير اجلامع بني فين الرواية والدراية‬ ‫من علم التفسري، حممد بن علي بن حممد كاين (املتوىف:0521ه )، (4/ 22).‬ ‫الشو‬ ‫41‬
  • 15. ‫ومن اآليات يف هذا الشأن، قوله تعاىل : ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ص:‬ ‫٩٤ ، وقوله : ﭽ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﭼ النساء: ٤٦ ، وقوله:‬ ‫﴿أَفَالَ يَتَدبَّرون القرآن أَم على قُلُوب أَقْ فاهلَآ﴾، حممد- 42، إىل غري ذلك من اآليات.‬ ‫َُ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫1‬ ‫وعليه، فإن قوله تعاىل : ﴿ليَدبَّروا﴾ متعلق ب قوله تعاىل : ﴿أَنزلْنَاهُ﴾، واملراد أنزلناه ليدبروا آياته ؛ وذلك‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ‬ ‫بغرض استخراج حقائق أسرار التكوين والتشريع، ومضمون هذه املعاين يشري إىل الغاية والمقصود من إنزال‬ ‫القرآن، فلم ينزله اهلل –تعاىل- ليتباهى الناس به، ويتمارى به القراء، دون اعتناء مبضمونه، واستخراج ملكنونه،‬ ‫وأخذ مبراده ومطلوبه ، بل أنزله لتدبر آياته، والتفكر والنظر فيها، ومن مث العمل به مجلة وتفصيال، حبيث يتخذ‬ ‫دستوراً ومنهجاً، يسريون عليه ويرجعون إليه، وحيتكمون إىل تعاليمه وآياته ؛ لقوله تعاىل : ﭽ ﮚ ﮛ ﮜ‬ ‫ﮝﮞﮟ ﭼ المائدة: ٦٢.‬ ‫ولن حيصل ذلك إال بتدبر آياته وفهم عباراته، والوقوف على مقصود اهلل -سبحانه وتعاىل- من كتابه، وملا‬ ‫كان حصول املقصود من إنزال القرآن الكرمي ال يتم إال بالتدبر هلذا الكتاب الكرمي ، أمر اهلل بذلك فقال :‬ ‫﴿ليدبروا آيَاته﴾، ومعناه : ليتفكروا فيها، فيقفوا على ما فيه ويعملوا به، وهذه أسمى حقائق تدبر القرآن.‬ ‫ويف هذا السياق يقول السعدي -رمحه اهلل- مبينا حقيقة التدبر، وما ترمي إليه هذه العبارة من الخير والفوائد:‬ ‫"يأمر تعاىل بتدبر كتابه، وهو التأمل يف معانيه، وحتديق الفكر فيه، ويف مبادئه وعواقبه، ولوازمه، ذلك ألن تدبر‬ ‫كتاب اهلل مفتاح للعلوم واملعارف، وبه يُستنتج كل خري وتُ ج منه مجيع العلوم، وبه يزداد اإلميان يف القلب‬ ‫ستخر‬ ‫وترسخ شجرته، فإنه يعرف بالرب املعبود، وما له من صفات الكمال؛ وما ينزه عنه من مسات النقص، ويعرف‬ ‫الطريق املوصلة إليه وصفة أهلها، وما هلم عند القدوم عليه، ويعرف العدو الذي هو العدو على احلقيقة، والطريق‬ ‫2‬ ‫املوصلة إىل العذاب، وصفة أهلها، وما هلم عند وجود أسباب العقاب.‬ ‫ومن حقائق تدبر القرآن، أنه كلما ازداد العبد تأمال فيه، ازداد علما وعمال وبصيرة وإيمانا ؛ لذلك أمر اهلل‬ ‫بذلك، وحث عليه، وأخرب أنه هو املقصود بإنزال القرآن، كما قال تعاىل : ﭽﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ‬ ‫1- حممد األمني الشنقيطي، املصدر نفسه، ( /01)، والتحرير والتنوير، ابن عاشور، (2/25).‬ ‫2- تيسري الكرمي الرمحن يف تفسري كالم املنان، عبد الرمحن بن ناصر بن عبد اهلل السعدي (املتوىف:62 1ه )، احملقق:عبد الرمحن‬ ‫بن معال اللوحيق، مؤسسة الرسالة، ط1، 0241ه -0002م، (1/921).‬ ‫51‬
  • 16. ‫ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ص: ٩٤ ، وقال تعاىل : ﭽ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﭼ محمد:‬ ‫٢٤.‬ ‫ثانيا:ومن خالل عملية التدبر، تتجلى حقائق وفوائد نفيسة، ومن بينها:‬ ‫أن العبد يصل بالتدبر إىل حقيقة اليقين والعلم بأن القرآن كالم اهلل ؛ ألنه يراه يصدق بعضه بعضا، ويوافق‬‫بعضه بعضا، فرتى احلكم والقصة واإلخبارات تعاد يف القرآن يف عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، ال ينقض‬ ‫بعضها بعضا، فبذلك يعلم كمال القرآن، وأنه من عند من أحاط علمه جبميع األمور ؛ فلذلك قال تعاىل: ﭽﭻ‬ ‫ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﭼ النساء: ٤٦ ، أي: فلما كان من عند اهلل مل‬ ‫يكن فيه اختالف أصال.‬ ‫1‬ ‫كما أن حقيقة تدبر القرآن تكشف لنا عن المعنى الحقيقي للدين اإلسالمي، وعالقته بترقية األمة حنو‬‫األحسن واألجود واألتقن ، يف مجيع اجملاالت احليوية املتعلقة حبياة الناس، فعملية التدبر للقرآن الكرمي، يف كلياته‬ ‫وجزئياته، ويف أصوله وفروعه.‬ ‫كما تفيدنا أن الدين هو ما كلف اهلل به األمة من جمموع العقائد، واألعمال، والشرائع، والنظم.‬‫-وأن إكمال الدين يف قوله تعاىل : ﭽ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﭼ‬ ‫المائدة: ١ ، هو إكمال البيان املراد هلل –تعاىل- ، الذي اقتضت احلكمة تنجيمه، فكان بعد نزول أحكام‬ ‫االعتقاد، اليت ال يسع املسلمني جهلها، وبعد تفاصيل أحكام قواعد اإلسالم اليت آخرها احلج بالقول والفعل،‬ ‫وبعد بيان شرائع املعامالت، وأصول النظام اإلسالمي، كان بعد ذلك كله قد ت البيان املراد هلل تعاىل يف قوله :‬ ‫ﭽﭯ ﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭼ النحل: ٩٦ ، وقوله: ﴿لتُبَ ين للنَّاس‬ ‫َ‬ ‫ما نُزل إلَْيهم﴾، النحل-44، حبيث صار جمموع التشريع احلاصل بالقرآن والسنة، كافيا يف هدي األمة يف‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫عبادهتا، ومعاملتها، وسياستها، يف سائر عصورها، حبسب ما تدعو إليه حاجاهتا، فقد كان الدين وافيا يف كل‬ ‫وقت، مبا حيتاجه املسلمون.‬ ‫2‬ ‫1- السعدي، املصدر نفسه، (1/921).‬ ‫2- التحرير والتنوير، ابن عاشور، (4/ 1).‬ ‫61‬
  • 17. ‫ثالثا: أن حقيقة تدبر القرآن تتضمن بيان وحتديد مظاهر اإلعجاز:‬ ‫ذلك أن من تَدبر القرآن وجد فيه من وجوه اإلعجاز فنونا ظاهرة وخفية، من حيث اللفظ ومن جهة املعىن‬ ‫قال اهلل –تعاىل- : ﭽ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﭼ هود: ٣ ، فأُحكمت ألفاظه،‬ ‫1‬ ‫وفُصلت معانيه أو بالعكس على اخلالف، فكل من لفظه ومعناه فصيح ال جيارى وال يداىن.‬ ‫1- فقد أخرب عن مغيبات ماضية وآتية، كانت ووقعت، طبق ما أخرب سواء بسواء.‬ ‫-وأمر بكل خير، وهنى عن كل شر،كما قال: ﭽ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ‬ ‫ﯗ ﯘ ﭼ األنعام: ١٣٣ ، أي:صدقا يف األخبار وعدال يف األحكام، فكله حق وصدق وعدل وهدى، ليس‬ ‫فيه جمازفة وال كذب وال افرتاء، كما يوجد يف أشعار العرب وغريهم من األكاذيب واجملازفات، اليت ال حيسن‬ ‫شعرهم إال هبا، وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البالغة، عند من يعرف ذلك تفصيال وإمجاال، ممن‬ ‫فهم كالم العرب وتصاريف التعبري، فإنه إن تأملت أخباره وجدهتا يف غاية احلالوة، سواء كانت مبسوطة أو‬ ‫وجيزة، وسواء تكررت أم ال، كلما تكرر حالَ وعالَ، ال خيلق عن كثرة الرد، وال ميل منه العلماء، كما جاء يف‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫احلديث:" هو الذي ال تزيغ به األهواء، وال تلتبس به األلسنة، وال يشبع منه العلماء، وال خيْلق على كثرة الرد، وال‬ ‫َ‬ ‫2‬ ‫تنقضي عجائبه".‬ ‫ع ؛ لقوله تعاىل: ﭽ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ‬ ‫2- وإن أخذ يف الوعيد والتهديد، جاء منه ما تقشعر له اجلبال وتتصد‬ ‫ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚﮛ ﮜ ﭼ الحشر: ٣٤ ، فما‬ ‫ظنك بالقلوب الرهيفات.‬ ‫وإن وعد، أتى مبا يفتح القلوب واآلذان، ويشوق إىل دار السالم، وجماورة عرش الرمحن، كما قال يف الرتغيب‬‫ْ ََ‬ ‫: ﭽ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﭼ السجدة: ٢٣ ، وقال: ﭽﯚ ﯛﯜ‬ ‫ﯝ ﯞﯟﯠ ﯡ ﯢﯣﯤ ﯥﯦﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭼ الزخرف: ٣٢.‬ ‫وقال يف الترهيب: ﭽ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭼ‬‫اإلسراء: ٦٨ ، وقوله تعاىل : ﭽ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ‬ ‫ﮇﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﭼ الملك: ٨٣ - ٢٣.‬ ‫وقال يف الزجر: ﭽﭠ ﭡﭢﭣ ﭼ العنكبوت: ٠٢.‬‫1- تفسري ابن كثري، (1/991).‬ ‫2-رواه الرتمذي يف سننه (ح:6092، 5/221)، قال أبو عيسى: هذا حديث ال نعرفه إال من هذا الوجه وإسناده جمهول ويف‬ ‫احلارث مقال، وضعفه قال الشيخ األلباين، ضعيف الرتمذي (6092).‬ ‫71‬
  • 18. ‫-وقال يف الوعظ: ﭽ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ‬ ‫ﭗ ﭼ الشعراء: ١٠٤ - ٢٠٤ ، إىل غري ذلك من أنواع الفصاحة والبالغة واحلالوة.‬ ‫ وإن جاءت اآليات يف األحكام واألوامر والنواهي، اشتملت على األمر بكل معروف حسن ونافع وطيب‬‫َ‬ ‫حمبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دينء ؛ كما قال ابن مسعود وغريه من السلف : إذا مسعت اهلل –تعاىل-‬ ‫يقول يف القرآن : ﴿يَا أَيُّها الَّذين آمنُوا﴾، فأوعها مسعك فإنه خري ما يأمر به أو شر ينهى عنه1 ؛ وهلذا قال تعاىل‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫: ﭽﮀﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ‬ ‫ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﭼ األعراف: ٢١٣.‬ ‫4- إن جاءت اآليات يف وصف المعاد، وما فيه من األهوال، ويف وصف الجنة والنار، وما أعد اهلل فيهما‬ ‫ألوليائه وأعدائه من النعيم واجلحيم واملالذ والعذاب األليم، بشرت به وحذرت وأنذرت؛ ودعت إىل فعل اخلريات‬ ‫واجتناب املنكرات، وزهدت يف الدنيا، ورغبت يف األخرى، وثبَّتت على الطريقة املثلى، وهدت إىل صراط اهلل‬ ‫املستقيم وشرعه القومي، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم.‬ ‫(2‬ ‫5- كما أن حقيقة تدبر القرآن، تكشف لنا عن الدالالت املعرفة باهلل –تعاىل- ، وعبادته حق العبادة.‬ ‫والدالالت على سعة رمحته، وجزيل فضله، ووجوب شكره، كمال قدرته، وعظيم سلطانه، وسعة ملكه،‬ ‫و‬ ‫وعموم خلقه جلميع األشياء.‬ ‫واتصافه بالحمد على كل ما اتصف به من الصفات الكاملة، وما فعله من األفعال احلسنة، ومتام ربوبيته،‬ ‫وانفراده فيها.‬ ‫وأن مجيع التدبير يف العامل العلوي والسفلي، يف ماضي األوقات وحاضرها ومستقبلها بيد اهلل –تعالى- ، ليس‬ ‫ألحد من األمر شيء، وال من القدرة شيء.‬ ‫فينتج من ذلك أنه تعاىل هو المألوه المعبود وحده، الذي ال يستحق أحد من العبودية شيئا، كما مل يستحق‬ ‫من الربوبية شيئا.‬ ‫وينتج من ذلك امتالء القلوب بمعرفة اهلل –تعالى- وحمبته وخوفه ورجائه.‬ ‫1- تفسري ابن كثري، (1/002).‬ ‫2- ابن كثري، املصدر نفسه، (1/002-102).‬ ‫81‬
  • 19. ‫وهذان األمران : أي معرفته وعبادته، مها من أعظم الحقائق اليت يُتوصل هبا عن طريق التدبر، ومها اللذان‬ ‫خلق اهلل اخللق ألجلهما، ومها الغاية املقصودة منه تعاىل لعباده، ومها املوصالن إىل كل خري وفالح وصالح،‬ ‫وسعادة دنيوية وأخروية، ومها اللذان أشرف عطايا الكرمي لعباده، ومها أشرف اللذات على اإلطالق، ومها اللذان‬ ‫إن فاتا، فات كل خري، وحضر كل شر، فنسأله تعاىل أن ميأل قلوبنا مبعرفته وحمبته، وأن جيعل كاتنا الباطنة‬ ‫حر‬ ‫1‬ ‫والظاهرة، خالصة لوجهه، تابعة ألمره، إنه ال يتعاظمه سؤال، وال حيفيه نوال.‬ ‫المبحث الثالث:‬ ‫أهمية تدبر القرآن الكريم في إصالح الفرد والمجتمع.‬ ‫ال شك أن منة اهلداية إىل احلق أعظم املنن ؛ ألن هبا صالح المجتمع وسالمة أفراده، من اعتداء قويهم على‬ ‫ُ‬ ‫ضعيفهم ، ولوال اهلداية لكانت نعمة اإلجياد خمتلة أو مضمحلة، وأن املراد باحلق الدين، وهو اإلميان واألعمال‬ ‫الصاحلة، وأصوله وهي االعتقاد الصحيح.‬ ‫واملعلوم أن التشريع ابتُدئ بالنهي عن عبادة غري اهلل ؛ ألن ذلك هو أصل اإلصالح؛ وال ريب أن إصالح‬ ‫المعتقد وإصالح الفكر، مقدم على إصالح العمل ؛ إذ ال يشاق العقل إىل طلب الصاحلات إال إذ كان‬ ‫صالحا2، وهذا ما يُعرف يف عصرنا مبصطلح األمن الفكري والعقدي، ويف احلديث الصحيح : " أال وإن يف‬ ‫اجلسد مضغة إذا صلحت صلح اجلسد كله، وإذا فسدت فسد اجلسد كله، أال وهي القلب".‬ ‫ومبا أن اإلنسان هو حمور البناء، ومرتكز الوجود احلضاري، فإن إصالحه يتحقق وفق القيم احملددة يف الكتاب‬ ‫والسنة، املؤسسة على منهج االستخالف الذي يتضمن التكليف بإعمار األرض بما هو أحسن وأنفع وأتقن،‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ال يتم إال بتدبر القرآن، الذي هو عنصر أساسي يف صناعة التميز الروحي واملادي ؛ لبلوغ اخلريية اليت ذكرها اهلل‬ ‫‪ ‬يف كتابه اجمليد، حيث قال تعاىل: ﭽ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ‬ ‫ﭨ ﭩﭪ ﭼ آل عمران: ٠٣٣.‬ ‫1- تفسري السعدي، املصدر السابق، (1/142).‬ ‫2- التحرير والتنوير، ابن عاشور، (41/45).‬ ‫ متفق عليه من حديث النعمان بن بشري، رواه البخاري (ح:05، 1/09)، ومسلم (ح:6992، 2/092).‬‫91‬
  • 20. ‫أي أن هذه األمة هي خري األمم، واملنتمون إليها هم أنفع الناس للناس ؛ حيث إهنم يأمرون باملعروف، وهو ما‬ ‫عُرف حسنه شرعا وعقال، وينهون عن املنكر، وهو ما عُرف قُبحه شرعا وعقال، ويصدقون باهلل تصديقا جازما،‬ ‫ُ‬ ‫1‬ ‫يؤيده العمل الصاحل.‬ ‫أوال: أهمية تدبر القرآن واالعتناء به، يف ترقية الفرد والمجتمع:‬ ‫ال ريب أن احلياة مع كتاب الله نعمة كها من أنعم اهلل هبا عليه، وما أسعد اإلنسان إذا جعل هذا الكتاب‬ ‫يدر‬ ‫إمامه، وهذا شأن املسلم، فاهتدى هبديه بعد أن تدبر آياته، وما أسعد اجملتمع الذي جيمع مثل هذا الفرد، وما‬ ‫أشد بؤس الذين حرموا أنفسهم من هدايته، فخبطوا يف حياهتم مينة ويسرة، وانتهوا إىل ضياع أعمارهم وضياع‬ ‫دنياهم وآخرهتم : ﴿قُل هل نُنَبئُكم باألَخسرين أَعماال الَّذين ضل سعيُهم يف احلَيَاة ُّنْيَا وهم حيسبُون أَنَّهم‬ ‫ْ الد َ ُ ْ َْ َ َ ُ ْ‬ ‫َ َ َّ َ ْ ُ ْ‬ ‫ْ َ ْ ُ ْ ْ ْ َ َ َْ‬ ‫حيسنُون صْنعا أُولَئك الَّذين كفروا بآيَات رهبم ولقائه فَحبطَت أَعماهلُم فَال نُقيم هلُم يَوم الْقيَامة وزنا﴾،الكهف،‬ ‫َ ْ ََ‬ ‫َ ْ ْ َ ُ ْ َ ُ َ ْ ْ َ َ َْ‬ ‫ُْ َ ُ‬ ‫َ َ َ َُ‬ ‫01-501.(2)‬ ‫وإن أكثر األوقات كة تلك اليت تُقضى مع هذا الكتاب الكرمي ؛ إذ يعيش اإلنسان مع كالم ربه ‪، ‬‬ ‫بر‬ ‫فيحس أنه يناجيه، فريتقي مقامه، ويشعر بالعناية اإلهلية حتيط به وترعاه، وتأخذ بيده إىل حيث سعادته وفالحه.‬ ‫حيس عندئذ هذا األثر العميق للقرآن يف حياة الفرد واألمة ، مّت كت عمن تتلقى وماذا عليها بعد التلقي ،‬ ‫أدر‬ ‫يقف على أسرار هذا الكتاب الكرمي، بعد تدبر وتفكر وتأمل، وهو يصوغ تلك النفوس صياغة جديدة جعلت‬ ‫منهم، أفرادا وجماعات، مناذج فريدة متميزة يف تاريخ البشرية الطويل.( )‬ ‫ً‬ ‫مث يدرك من يعيش مع كتاب اهلل عُمق اخلطر يف دعاوى الذين يتبعون أهواءهم، باتباع مناهج وثقافات علمانية‬ ‫وغربية، تتعارض مع أصول ثقافتنا العربية واإلسالمية، تلك الدعاوى اليت تريد أن تقطع صلة األمة بكتاب رهبا‬ ‫‪ ، ‬فتنسلخ عن مصدر اهلداية لتُغرق يف التيه والضياع(4)، قال اهلل : ﴿واتْل علَْيهم نَبَأَ الَّذي آتَْي نَاهُ آيَاتنَا‬ ‫َ ُ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫فَانسلَخ مْن ها فَأَتْ بَ عهُ َّيطَان فَكان من الْغَاوين﴾،األعراف-521.‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ الشْ ُ َ َ َ‬ ‫1 - حممد بن أمحد أبو عبد اهلل القرطيب، تفسري القرآن العظيم، حتقيق أمحد بن عبد العليم الربدوين،ط2، دار الشعب القاهرة،‬ ‫22 1ه ،(4/ 21)؛ وابن كثري،أبو الفداء إمساعيل بن كثري الدمشقي،تفسري القرآن العظيم،دار الفكر،(در،دت)،(1/09)‬ ‫2- معامل التنزيل، أبو حممد احلسني بن مسعود البغوي، (ت:615 ه )، حققه ج أحاديثه حممد عبد اهلل النمر، وعثمان مجعة‬ ‫وخر‬ ‫ضمريية، وسليمان مسلم احلرش، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط4، 2141 ه -2991م، (1/5).‬ ‫ مقدمة تفسري البغوي، (1/5).‬‫4- البغوي، املصدر نفسه، (1/5).‬ ‫02‬
  • 21. ‫ومن هنا ندرك أهمية تدبر القرآن واالعتناء به، يف ترقية الفرد والمجتمع، وآثاره االجيابية اليت تنعكس عليهما،‬ ‫يف جمال إصالح أحواهلم االجتماعية واالقتصادية والثقافية والرتبوية، وما إىل ذلك من األمور احليوية واملهمة يف‬ ‫حياة الناس.‬ ‫ثانيا:تدبر القرآن ومفهوم اإلصالح في الرؤية اإلسالمية:‬ ‫ال شك أن مفهوم اإلصالح يف الرؤية اإلسالمية، هو العودة للفطرة البشرية اليت خلق اهلل الناس عليها، قال‬ ‫تعاىل : ﴿فطْرة اللَّه الَّيت فَطَر النَّاس علَْي ها ال تَْبديل خلَْلق اللَّه﴾، الروم-0 ، والعودة لدينه، وهلدي نبيه ‪ ، ‬قال‬ ‫َ َ َ َ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫تعاىل : ﴿ذَلك الدين الْقيم﴾، الروم-0 ، وما عدا ذلك فهو الفساد، وإن كان ظاهره الصالح، ففي اإلرشاد‬ ‫َ‬ ‫ُ َُ‬ ‫1‬ ‫إىل الصالح والكمال، مناء ملا أودع اهلل يف النفوس من اخلري يف الفطرة.( )‬ ‫وال شك أن هذا الصالح، ينشأ عنه تواصل يف األجيال ؛ ألن االستقامة يف اآلباء دوام االستقامة يف النسل،‬ ‫ألن النسل مْنسل من ذوات األصول ، فهو ينقل ما فيها من األحوال اخللقية واخلُلُقية، وملا كان النسل منسالَ من‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫الذكر واألنثى ، كان حبكم الطبع حمصال على جمموع من احلالتني ، فإن استوت احلالتان أو تقاربتا، جاء النسل‬ ‫على أحوال مساوية املظاهر ألحوال سلفه.(2)‬ ‫واإلصالح مهمة األنبياء واملرسلني ، والدعاة إىل اهلل واملخلصني ، كما جاء على لسان شعيب ‪ ، ‬يف قوله‬ ‫تعاىل : ﴿إن أُريد إالَّ اإلصالَح ما استَطَعت﴾، هود-22، أي: ليس ِل من املقاصد إال أن تصلح أحوالكم،‬ ‫ْ ُ‬ ‫ْ َ َ ْ ْ ُ‬ ‫وتستقيم منافعكم.‬ ‫وهذا اإلصالح شامل للدين والدنيا واآلخرة، كما جاء عن أبي هريرة ‪ ‬قال:كان رسول اهلل‪ ‬يقول : (‬ ‫اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي اليت فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي اليت فيها‬ ‫معادي...).( )‬ ‫قال المناوي رمحه اهلل يف ح هذا احلديث:‬ ‫شر‬ ‫1- التحرير والتنوير، ابن عاشور، املصدر السابق، (2/44).‬ ‫2- ابن عاشور، املصدر السابق، (2/242).‬ ‫ رواه مسلم يف صحيحه (ح:2924، 1/942).‬‫12‬
  • 22. ‫"(اللهم اصلح ِل ديين الذي هو عصمة أمري) ، أي الذي هو حافظ جلميع أموري، فإن من فسد دينه فسدت‬ ‫أموره، وخاب وخسر.‬ ‫(وأصلح ِل دنياي اليت فيها معاشي)، أي بإعطاء الكفاف فيما حيتاج إليه ، كونه حالال معينا على الطاعة.‬ ‫و‬ ‫(وأصلح ِل آخريت اليت فيها معادي)، أي ما أعود إليه يوم القيامة، قال الطييب: إصالح املعاد، اللطف والتوفيق‬ ‫على طاعة اهلل وعبادته، وطلب الراحة باملوت، فجمع يف هذه الثالثة: صالح الدين والدنيا واملعاد، وهي أصول‬ ‫مكارم األخالق".(1)‬ ‫وقد تقدم، أن معىن "أصلَح" أي فَعل الصالح، وهو الطاعة هلل فيما أمر وهنى ؛ ألن اهلل ما أراد بشرعه إال‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫إصالح الناس يف دينهم ودنياهم وأخراهم، وهي الحكمة من إنزال القرآن الكرمي ؛ ليتدبر الناس آياته،‬ ‫فيستخرجوا علمها، ويتأملوا أسرارها وحكمها ، وال يكون ذلك إال بالتدبر فيها والتأمل ملعانيها، وإعادة الفكر‬ ‫فيها مرة بعد مرة، تُدرك كة القرآن وخريه، فهو مفتاح للعلوم واملعارف، وبه يُستنتج كل خري، وتُ ج منه مجيع‬ ‫ستخر‬ ‫بر‬ ‫العلوم الدينية والدنيوية.‬ ‫ومن هنا يتضح لنا االرتباط القوي، والعالقة الوطيدة، بني تدبر القرآن وبني اإلصالح الذي أمر اهلل به أنبياءه‬ ‫ورسله حتقيقه مع أممهم الذين أُرسلوا إليهم ؛ ليخرجوهم من الظلمات إىل النور.‬ ‫وأهمية تدبر القرآن يف اإلصالح سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع، ويف مجيع اجملاالت‬ ‫احليوية، فإهنا تكمن يف إدراك وبلوغ المقاصد اليت جاء القرآن لتبياهنا، وتتمثل يف معرفة اهلل -جل وعال-‬ ‫وعبادته ، ومها اللذان خلق اهلل اخللق ألجلهما ، ومها الغاية املقصودة منه تعاىل لعباده ، ومها املوصالن إىل كل‬ ‫خري وفالح وصالح ، قال تعاىل : ﭽ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭼ الذاريات: ٨١ ، فاإلصالح يف‬ ‫األرض ، أن تعمر بطاعة اهلل واإلميان به، فإذا عمل فيها بضده، كان سعيا فيها بالفساد، و إخرابا هلا عما‬ ‫خلقت له.(2)‬ ‫ُ‬ ‫ثالثا:المقاصد واألبعاد في تدبر القرآن:‬ ‫1- التيسري ح اجلامع الصغري، احلافظ زين الدين عبد الرؤوف املناوي، مكتبة اإلمام الشافعي،الرياض، ط ، 2041ه -‬ ‫بشر‬ ‫2291م، (1/144).‬ ‫2- تفسري السعدي، املصدر السابق، (1/24).‬ ‫22‬
  • 23. ‫ومن منطلقات حقائق تدبر القرآن استقرأ المفسرون المقاصد األصلية واألبعاد، املتعلقة مبجاالت اإلصالح‬ ‫اليت حتدث عنها القرآن الكرمي ، وقد خلصها العالمة ابن عاشور يف مقدمة تفسريه(1)، يف مثانية أمور:‬ ‫1- إصالح االعتقاد، وتعليم العقد الصحيح، وهو أعظم سبب إلصالح اخللق ؛ ألن إصالح االعتقاد هو‬ ‫أصل اإلصالح، ومفتاح باب الصالح يف العاجل، والفالح يف اآلجل:‬ ‫-ألنه يزيل عن النفس عادة اإلذعان لغري ما قام عليه الدليل.‬ ‫ويطهر القلب من األوهام الناشئة عن الشرك و كيات، وقد أشار إىل هذا املعىن قوله تعاىل : ﭽ ﭸ ﭹ‬‫الشر‬ ‫ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﭼ هود: ٣٠٣ فأسند آلهلتهم‬ ‫زيادة تتبيبهم ، وليس هو من فعل اآلهلة، ولكنه من آثار االعتقاد باآلهلة، فسبب هالكهم ودمارهم، إمنا كان‬ ‫ََ‬ ‫باتباعهم تلك اآلهلة وعبادهتم إياها.‬ ‫2- إصالح األخالق وتهذيبها، وال يكون ذلك إال بالتعليم الصحيح واآلداب اإلسالمية، قال اهلل تعاىل: ﭽ‬ ‫ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﭼ القلم: ٢ ، وفسرت عائشة -رضي اهلل تعاىل عنها- ملا سئلت عن خلقه ‪ ‬فقالت :‬ ‫ُ‬ ‫" كان خلقه القرآن"2، ويف احلديث الذي رواه مالك يف املوطأ بالغا أن رسول اهلل ‪ ‬قال: ( بُعثت ألمتم حسن‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫األخالق) .‬ ‫ إصالح التشريع ، واألعراف والقوانني املسرية للمؤسسات (القضائية، االقتصادية، التعليمية، الصحية...مبا‬‫يتماشى والشريعة اإلسالمية).‬ ‫قال تعاىل : ﭽ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭼ‬ ‫النساء: ١٠٣.‬ ‫وقال تعاىل : ﭽﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈﮉ ﮊﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ‬ ‫ﮐﮑ ﮒ ﮓﮔ ﭼ المائدة: ٦٢.‬ ‫ولقد مجع القرآن مجيع األحكام مجعا كليا يف الغالب ، وجزئيا يف املهم ، فقوله تعاىل : ﭽ ﭲ ﭳ ﭴ ﭼ‬ ‫النحل: ٩٦ ، وقوله تعاىل : ﭽ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭼ المائدة: ١ ، املراد هبما إكمال الكليات اليت منها األمر‬ ‫باالستنباط والقياس.‬ ‫4‬ ‫1- التحرير والتنوير، حممد الطاهر بن عاشور، املصدر السابق، (1/14)، بتصرف.‬ ‫2- رواه أمحد يف مسنده، (ح:064 2، 05/611).‬ ‫ رواه مالك يف املوطأ بالغا، (5/62 ).‬‫4- حترير والتنوير، حممد الطاهر بن عاشور، املصدر السابق، (1/14)، بتصرف.‬ ‫32‬
  • 24. ‫4- إصالح سياسة األمة، وتدبير شؤونها، العامة واخلاصة، يف مجيع اجملاالت احليوية، وعلى مجيع املستويات،‬ ‫وهو يف حقيقة األمر باب عظيم يف القرآن الكرمي، والقصد منه صالح األمة، أفرادا وجماعات، وحفظ نظامها،‬ ‫بإصالح عقائدهم وأخالقهم، وبإصالح أمزجتهم باحملافظة عليهم من املهلكات واألخطار واألمراض، ومبداواهتم،‬ ‫ودفع األضرار عنهم، وبكفاية مؤهنم من الطعام واللباس واملسكن، باملعروف، دون تقتري وال سرف، كذا بإصالح‬ ‫و‬ ‫أمواهلم، بتنميتها وتعهدها وحفظها، وتربيتهم على احملافظة على وحدة األمة ومتاسكها، وعلى الوسطية واالعتدال‬ ‫يف كل أمر، والبعد عن الشقاق والغلو والتطرف.‬ ‫وذلك بتدبر اآليات اخلاصة هبذا الشأن، كقوله تعاىل : ﭽﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ‬ ‫ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ‬ ‫ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﭼ آل عمران: ١٠٣.‬ ‫وقوله تعاىل : ﭽ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﭼ‬ ‫األنعام: ٩١٣.‬ ‫وقوله تعاىل : ﭽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭼ األنفال:‬ ‫٨٢. (1)‬ ‫5- اإلصالح بالقصص، وأخبار األمم السالفة:‬ ‫للتأسي بصالح أحوالهم ؛ وذلك بتدبر اآليات اخلاصة هبذا الشأن،كما جاء يف قوله تعاىل: ﴿حنن نَقص‬‫َْ ُ ُ ُّ‬ ‫علَْيك أَحسن الْقصص مبَا أَوحْي نَا إلَْيك ه ذا الْقرآن وإن كنت من قَ ْبله لَمن الْغَافلني﴾، يوسف- ، وقوله تعاىل:‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ُْ َ َ ُ َ‬ ‫َ َ ْ ََ َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ﭽ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭼ األنعام:‬ ‫٠٩.‬ ‫-وللتحذير من مساوئهم ، قال تعاىل: ﭽﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ‬ ‫ﮁ ﮂﮃ ﮄﮅ ﮆ ﭼ إبراهيم: ١٢.‬ ‫6- اإلصالح بالتربية والتعليم، مناهجها وطرقها وبراجمها، مبا يناسب حالة عصر املخاطبني، وما يؤهلهم إىل‬ ‫تلقي الشريعة ونشرها، وذلك علم الشرائع وعلم األخبار، كان ذلك مبلغ علم خمالطي العرب من أهل الكتاب.‬ ‫و‬ ‫1- حترير والتنوير، حممد الطاهر بن عاشور، (1/14).‬ ‫42‬
  • 25. ‫وقد زاد القرآن على ذلك تعليم حكمة ميزان العقول وصحة االستدالل يف أفانني جمادالته للضالني، ويف‬ ‫دعوته إىل النظر، مث نوه بشأن احلكمة، فقال تعاىل : ﭽﯤﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ‬ ‫ﯯﯰ ﯱﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﭼ البقرة: ٩٨٤.‬ ‫وهذا أوسع باب انبجست منه عيون املعارف، وانفتحت به عيون األميني إىل العلم.‬ ‫وقد حلق به التنبيه املتكرر على فائدة العلم، وذلك شيء مل يطرق أمساع العرب من قبل، إمنا قصارى علومهم‬ ‫أمور جتريبية، كان حكماؤهم أفرادا اختصوا بفرط ذكاء تُضم إليه جتربة ، وهم العرفاء ، فجاء القرآن بقوله تعاىل :‬ ‫و‬ ‫ﭽ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﭼ العنكبوت: ١٢ ، وقوله تعاىل : ﭽ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ‬ ‫ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﭼ الزمر: ٩ ، وقوله تعاىل : ﭽﮉﮊ ﮋ ﭼ القلم: ٣ ، فنبه إىل مزية القراءة والكتابة.‬ ‫1‬ ‫2- اإلصالح بتدبر آيات الوعد والوعيد، املتضمنة المواعظ واإلنذار والتبشير، كذلك احملاجة واجملادلة‬ ‫و‬ ‫للمعاندين، وهذا باب الرتغيب والرتهيب.‬ ‫2- اإلصالح بتدبر اآليات اخلاصة ببيان وجوه اإلعجاز في القرآن ؛ ليكون آية دالة على صدق الرسول ‪ ‬؛‬ ‫ْ‬ ‫إذ التصديق يتوقف على داللة املعجزة بعد التحدي، والقرآن مجع كونه معجزة بلفظه، ومتحدي ألجله مبعناه،‬ ‫والتحدي وقع فيه، قال تعاىل : ﭽ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ‬ ‫ﯣ ﭼ يونس: ٦١.(2)‬ ‫ويتفرع عن عالقة التدبر باإلصالح:‬ ‫أن وظيفة املصلحني، تنطلق من التدبر والتأمل، يف اآليات القرآنية اخلاصة بكل جمال من اجملاالت احليوية،‬ ‫اجتماعيا، واقتصاديا، وثقافيا، وتربويا، وهي تتمثل يف إرادة اإلصالح، بتحقيق املصلحة اليت تصلح هبا أحوال‬ ‫العباد، وتستقيم هبا أمورهم الدينية والدنيوية، وذلك:‬ ‫بتحصيل املصاحل وتكميلها.‬‫وبدفع املفاسد وتقليلها.‬‫-ومبراعاة املصاحل العامة على املصاحل اخلاصة.‬ ‫1- ابن عاشور، املصدر نفسه، (1/14)، بتصرف.‬ ‫2- ابن عاشور، املصدر السابق، (1/14)، بتصرف.‬ ‫52‬
  • 26. ‫وأن من قام مبا يقدر عليه من اإلصالح، مل يكن ملوما وال مذموما يف عدم فعل ما ال يقدر عليه ، فعلى العبد‬ ‫أن يقيم من اإلصالح يف نفسه ويف غريه، ما يقدر عليه، لقوله تعاىل : ﴿إن أُريد إالَّ اإلصالَح ما استَطَعت﴾،‬ ‫ْ ُ‬ ‫ْ َ َ ْ ْ ُ‬ ‫هود-22، كما ينبغي له أن ال يتكل على نفسه طرفة عني ، بل ال يزال مستعينا بربه - سبحانه وتعاىل- ،‬ ‫كال عليه، سائال له التوفيق ؛ لقوله تعاىل : ﴿وما تَوفيقي إال باللَّه علَْيه تَ َك ْلت وإلَْيه أُنيب﴾، ولقول النيب ‪‬‬ ‫متو‬ ‫ََ ْ‬ ‫َ وَّ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫: " اللَّهم رمحَتَك أَرجو فَال تَك ْلين إىل نَفسي طَرفَةَ عني"1 .‬ ‫ُ َّ َ ْ َ ْ ُ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ َْ‬ ‫والحمد هلل الذي بنعمته تتم الصالحات.‬ ‫1- رواه أبو داود يف سننه (ح:2905، 4/424).‬ ‫62‬
  • 27. ‫الخاتمة:‬ ‫وجملة القول يف خاتمة هذا البحث املتواضع، وما تضمنه من نتائج:‬ ‫فإن تدبر القرآن الكرمي، والوقوف عند معاين آياته وأحكامه، هو من األمور املهمات، وآثاره اإلصالحية على‬ ‫مجيع املستويات جليات ، إن على مستوى األفراد أو على مستوى اجملتمعات، وذلك يف مجيع اجملاالت، كإصالح‬ ‫ْ‬ ‫االعتقاد، وتهذيب األخالق، وتشريع األحكام، وتحديد سياسات األمة، التي بها يتم صالحها وحفظ‬ ‫نظامها، اقتصاديا، وثقافيا، وصحيا، وتعليميا، واجتماعيا...، كل هذه املعاين وغريها، تدخل ضمن المقاصد‬ ‫و‬ ‫الجامعة للقرآن الكريم، يف تقومي حياة الناس إىل يوم الدين، قال اهلل تعاىل: ﭽ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬ ‫ﭦ ﭧ ﭨﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭼ اإلسراء: ٩.‬ ‫وال ريب أن قيمة القرآن كته تكمل يف تالوته، وتدبره، والعمل به، فما اللفظ وترتيله إال وسيلة يف إدراك‬ ‫وبر‬ ‫املعىن وحتصيله، وطلب اخلشوع، والتأثر به، وترمجة هذا التأثر إىل عمل صاحل.‬ ‫فاآليات القرآنية، والنصوص الحديثية، وما ثبت من ذلك يف وقائع سير السلف الصالح، يدل على أن تدبر‬ ‫القرآن، وتفهمه، وتعلمه، والعمل به، أمر ال بد منه للمسلمين، وأن ثواب قراءة الرتتيل والتدبر أجل وأرفع قدرا.‬ ‫ُّ ُ‬ ‫وقد بني النبي ‪ ‬أن املشتغلني بذلك، هم خير الناس، كما ثبت عنه ‪ ‬يف الصحيح من حديث عثمان بن‬ ‫عفان ‪ ‬أنه قال :( كم من تعلم القرآن وعلمه ) ، وقال تعاىل: ﭽ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ‬ ‫خير‬ ‫ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﭼ آل عمران: ٩٢.‬ ‫فإعراض كثري من الناس عن التدبر في كتاب اهلل، والنظر فيه، وتفهمه، والعمل به، وبالسنة الثابتة املبينة له،‬ ‫يف مجيع اجملاالت احليوية، اجتماعيا، واقتصاديا، وتربويا، وثقافيا، وسياسيا، وما إىل ذلك من األمور اليت حتتاج‬ ‫إليها األمة، أفرادا ومجاعات، هو من أعظم املناكر وأشنعها، وإن ظن فاعلوه أهنم على هدى، باتباعهم مناهج‬ ‫غربية علمانية مستوردة، واهلل املستعان.‬ ‫وأن حقيقة التدبر تكمن يف الحقائق املرجوة واملقصودة منه، وتتمثل أصال يف بيان مراد اهلل من إنزاله القرآن‬ ‫الكرمي، واملتتبع لآليات اخلاصة هبذا الشأن، وأخص بالذكر آيات البيان وآيات التدبر، تتجلى لديه حقيقة‬ ‫ُّ‬ ‫التدبر األساسية، اليت تكشف لنا عن حكمتين من حكم إنزال القرآن على النيب صلى اهلل عليه وسلم، كما بني‬ ‫َ‬ ‫أهل العلم خلفا وسلفا:‬ ‫72‬
  • 28. ‫الحكمة األولى: أن اهلل ‪ ‬أنزل القرآن على نبيه ‪ ‬ليبين للناس ما نزِل إليهم يف هذا الكتاب، من‬ ‫األحكام الشرعية، والوعد والوعيد، وحنو ذلك.‬ ‫والحكمة الثانية: هي التدبر والتفكر يف آيات اهلل واالتعاظ هبا، والتأمل يف أحكامها ومقاصدها، والعمل مبا‬ ‫جاء فيها تقربا إىل رضى اهلل –تعاىل-.‬ ‫وعليه ، فإن قوله تعاىل : ﴿ليَدبَّروا﴾ متعلق ب قوله تعاىل : ﴿أَنزلْنَاهُ﴾، واملراد أنزلناه ليدبروا آياته، وذلك‬ ‫َ‬ ‫َّ ُ‬ ‫بغرض استخراج حقائق أسرار التكوين والتشريع، ومضمون هذه املعاين يشري إىل الغاية والمقصود من إنزال‬ ‫القرآن، وهو أن يتخذ دستوراً ومنهجاً، يسريون عليه املسلمون ويرجعون إليه، وحيتكمون إىل تعاليمه وآياته،‬ ‫لقوله تعاىل : ﭽﮚ ﮛ ﮜﮝﮞﮟ ﭼ المائدة: ٦٢.‬ ‫وال شك أن االعتناء بالقرآن الكرمي تدبرا وتفكرا وتأمال، له األهمية الكربى يف ترقية الفرد والمجتمع، يف‬ ‫جمال إصالح أحواهلم االجتماعية واالقتصادية والثقافية والرتبوية، وما إىل ذلك من األمور احليوية واملهمة يف حياة‬ ‫الناس.‬ ‫وأن مفهوم اإلصالح يف الرؤية اإلسالمية، هو العودة للفطرة البشرية اليت خلق اهلل الناس عليها، قال تعاىل: ﭽ‬ ‫ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﭼ الروم: ٠١ ، وال يكون ذلك إال بالتدبر، والعودة لدينه،‬ ‫وهلدي نبيه ‪ ، ‬قال تعاىل : ﭽ ﯥ ﯦ ﯧ ﭼ الروم: ٠١ ، وما عدا ذلك فهو الفساد، وإن كان‬ ‫ظاهره الصالح، ففي اإلرشاد إىل الصالح والكمال مناء ملا أودع اهلل يف النفوس من اخلري يف الفطرة.‬ ‫واإلصالح هو مهمة األنبياء واملرسلني، والدعاة إىل اهلل واملخلصني له، كما جاء على لسان شعيب ‪ ، ‬يف‬ ‫قوله تعاىل: ﭽ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷﯸ ﭼ هود: ٦٦ ؛ ألن اهلل ما أراد بشرعه إال إصالح الناس، يف دينهم‬ ‫ودنياهم وأخراهم، وهي الحكمة من إنزال القرآن الكرمي ؛ ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها، ويتأملوا‬ ‫أسرارها وحكمها، فهو مفتاح للعلوم واملعارف الدينية والدنيوية، وبه يُستنتج كل خري، عاجال أو آجال.‬ ‫ومن هنا يتضح لنا االرتباط القوي، والعالقة الوطيدة، بني تدبر القرآن وبني اإلصالح الذي أمر اهلل به أنبياءه‬ ‫ورسله حتقيقه مع أممهم الذين أُرسلوا إليهم ؛ ليخرجوهم من الظلمات إىل النور.‬ ‫82‬
  • 29. ‫وأهمية تدبر القرآن يف اإلصالح سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع، تكمن يف إدراك‬ ‫وبلوغ المقاصد، اليت جاء القرآن لتبياهنا، وتتمثل يف معرفة اهلل -جل وعال- وعبادته، ومها اللذان خلق اهلل‬ ‫اخللق ألجلهما، ومها الغاية املقصودة منه تعاىل لعباده، ومها املوصالن إىل كل خري وفالح وصالح.‬ ‫فاإلصالح يف األرض، أن تعمر بطاعة اهلل واإلميان به، فإذا عمل فيها بضده، كان سعيا فيها بالفساد، وإخرابا‬ ‫هلا عما خلقت له ؛ لقوله تعاىل : ﭽﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﭼ األعراف: ٨١.‬ ‫ومن منطلقات حقائق تدبر القرآن، تُستقرأ المقاصد األصلية واألبعاد، املتعلقة مبجاالت اإلصالح اليت‬ ‫حتدث عنها القرآن الكرمي، وقد خلصها جل املفسرون يف:‬ ‫-إصالح االعتقاد، وهو أعظم سبب إلصالح اخللق ؛ ألن إصالح االعتقاد هو أصل اإلصالح، ومفتاح‬ ‫باب الصالح يف العاجل، والفالح يف اآلجل.‬ ‫- وإصالح األخالق وتهذيبها.‬ ‫- وإصالح التشريع، واألعراف والقوانني املسرية للمؤسسات (القضائية، االقتصادية، التعليمية، الصحية...مبا‬ ‫يتماشى والشريعة اإلسالمية).‬ ‫ وإصالح سياسة األمة، وتدبير شؤونها، العامة واخلاصة، يف مجيع اجملاالت احليوية، وعلى مجيع املستويات،‬‫وهو يف حقيقة األمر باب عظيم يف القرآن الكرمي، والقصد منه صالح األمة، أفرادا وجماعات، وحفظ نظامها.‬ ‫ واإلصالح بالقصص، وأخبار األمم السالفة ؛ للتأسي بصالح أحوالهم، والتحذير من مساوئهم.‬‫ واإلصالح بالتربية والتعليم والتكوين، بسالمة املناهج والطرق والربامج، مبا يناسب حالة عصر املخاطَبني،‬‫وما يؤهلهم إىل ترقية احلضارة االسالمية، يصدق فيهم قوله تعاىل : ﭽ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭼ آل عمران:‬ ‫٠٣٣.‬ ‫ واإلصالح بتدبر آيات الوعد والوعيد، املتضمنة المواعظ واإلنذار والتبشير، كذلك احملاجة واجملادلة مع‬‫و‬ ‫املخالف بالتي هي أحسن، وهذا باب الرتغيب والرتهيب.‬ ‫ واإلصالح بتدبر اآليات اخلاصة ببيان وجوه اإلعجاز في القرآن ؛ ليكون آية دالة على صدق الرسول ‪‬‬‫، وعلى صدق عالمية االسالم.‬ ‫وهكذا، تنطلق وظيفة المصلحين، يف كل زمان ومكان، من التدبر والتأمل والتفكر، يف اآليات القرآنية‬ ‫اخلاصة بكل جمال من اجملاالت احليوية، االجتماعية، واالقتصادية، والثقافية، والرتبوية، والسياسية، بإرادة‬ ‫اإلصالح الشامل، لتحقيق املصلحة اليت تصلح هبا أحوال العباد، وتستقيم هبا أمورهم الدينية والدنيوية، واهلل‬ ‫أعلى وأعلم ، وعلمه أتم.‬ ‫92‬
  • 30. ‫التوصيات:‬ ‫وهذه بعض التوصيات اليت رأيت أهنا تفيد موضوع البحث خصوصا، وموضوع املؤمتر عموما.‬ ‫ ينبغي االهتمام واالعتناء مبثل هذه املؤمترات والندوات العلمية، اخلاصة بالقرآن الكرمي والسنة النبوية.‬‫ تربية الشباب للعودة إىل االستقامة على هنج القرآن الكرمي والسنة النبوية، واالعتناء بكتاب اهلل، وحثهم على‬‫تالوته، وتدبره، وفهم معانيه، واالستفادة من هداياته وعظاته.‬ ‫ تشجيع املؤسسات التعليمية، اخلاصة حبفظ القرآن الكرمي، وتنميتها وترقيتها، ماديا ومعنويا، وأن تكون بالفعل‬‫حمل اهتمام الراعي والرعية.‬ ‫ إصالح تعليم القرآن الكريم، بإعادة النظر يف الوسائل والربامج، فالبد من وضع مناهج للمتعلمني، تشجعهم‬‫على تدبر القرآن الكريم وفهم معانيه، والوصول هبم إىل درجة تكسبهم ملكة التدبر لكتاب اهلل تعاىل.‬ ‫ تشجيع اإلعالم وأجهزة التواصل المجتمعاتية بكل أنواعها، املرئية واملسموعة واملكتوبة، يف إظهار قيمة‬‫التدبر وأثره في اإلصالح، حنو األحسن واألتقن واألجود.‬ ‫ تأسيس مواقع علمية تتعلق بالتدبر، وترمجتها إىل خمتلف اللغات العاملية.‬‫ بيان أن كل المصطلحات اليت تدل على اإلحسان واإلتقان ، والدقة، والجودة، والمهارات، واإلبداع، وما‬‫كها وجوهرها هو التدبر، الذي يرجع باإلنسان إىل الفطرة‬ ‫شاكلها، يف فهم القرآن الكريم، إال وروحها ومحر‬ ‫اليت فطر اهلل الناس عليها، سواء يف العقائد، أو العبادات، أو املعامالت، أو األخالق والفضائل ؛ وهلذا ميكننا‬ ‫القول أن للتدبر آثارا طيبة ومتميزة يف تنمية الفرد والمجتمع، باعتباره عبادة ومنهج حياة، يساهم يف صناعة‬ ‫التميز، وحافز كبري لكسب رهان التقدم والرقي الحضاري، والدفع باإلنسانية ملا هو أفضل وأنفع؛ وهلذا أمر به‬ ‫اهلل ‪ ‬ونبيه املصطفى ‪ ، ‬ورغبا فيه.‬ ‫واهلل ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل‬ ‫وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين.‬ ‫03‬
  • 31. ‫فهرس المصادر والمراجع:‬ ‫القرآن الكريم، برواية ورش.‬ ‫1. أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن، حممد األمني بن حممد املختار بن عبد القادر اجلكين الشنقيطي،‬ ‫دار الفكر، بريوت، 5141ه - 5991م.‬ ‫2. أمراض القلب وشفاؤها، شيخ اإلسالم ابن تيمية، املطبعة السلفية، القاهرة، ط99 1،2ه .‬ ‫. تاج العروس من جواهر القاموس، حممد بن حممد بن عبد الرزاق احلسيين، أبو الفيض، امللقب مبرتضى،‬ ‫الزبيدي.‬ ‫َّ‬ ‫4. التحرير والتنوير، حممد الطاهر بن عاشور التونسي، مؤسسة التاريخ العريب، بريوت،ط1، 0241ه‬ ‫،0002م.‬ ‫5. حتفة األحوذي ح جامع الرتمذي، حممد عبد الرمحن بن عبد الرحيم املبار كفوري أبو العال، دار‬ ‫بشر‬ ‫الكتب العلمية، بريوت.‬ ‫6. تفسري القرآن العظيم، أبو الفداء إمساعيل بن كثري الدمشقي، دار الفكر،(در،دت).‬ ‫2. تيسري الكرمي الرمحن يف تفسري كالم املنان، عبد الرمحن بن ناصر بن عبد اهلل السعدي (املتوىف:‬ ‫62 1ه )، احملقق:عبد الرمحن بن معال اللوحيق، مؤسسة الرسالة، ط1، 0241ه -0002م.‬ ‫2. التيسري ح اجلامع الصغري، احلافظ زين الدين عبد الرؤوف املناوي، مكتبة اإلمام الشافعي، الرياض،‬ ‫بشر‬ ‫ط ، 2041ه -2291م.‬ ‫9. جامع البيان يف تأويل القرآن، حممد بن جرير بن يزيد بن كثري بن غالب اآلملي، أبو جعفر الطربي،‬ ‫احملقق: أمحد حممد شاكر، مؤسسة الرسالة، ط1، 0241ه - 0002م.‬ ‫01. اجلامع ألحكام القرآن، لإلمام أبو عبد اهلل حممد بن أمحد األنصاري القرطيب، دار الكتب العلمية،‬ ‫بريوت – لبنان، الطبعة عام 141ه - 991م.‬ ‫11. روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين، حممود األلوسي أبو الفضل، دار إحياء الرتاث‬ ‫العريب-بريوت.‬ ‫21. زاد املعاد يف هدي خري العباد، مشس الدين ابن قيم اجلوزية، مؤسسة الرسالة، بريوت-مكتبة املنار‬ ‫اإلسالمية، الكويت، ط22، 5141ه /4991م.‬ ‫1. سبل السالم، حممد بن إمساعيل األمري الكحالين الصنعاين، مكتبة مصطفى البايب احلليب، ط4،‬ ‫92 1ه -0691م.‬ ‫41. السنن الكربى، أبو بكر أمحد بن احلسني بن علي البيهقي، جملس دائرة املعارف النظامية الكائنة يف‬ ‫اهلند ببلدة حيدر آباد، ط1، 44 1 ه.‬ ‫13‬
  • 32. ‫51. السنن، ابن ماجه، حممد بن يزيد القزويين، حتقيق حممد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بريوت.‬ ‫61. السنن، أبو داود، سليمان بن األشعث السجستاين، حتقيق حممد حميي الدين عبد احلميد، دار الفكر.‬ ‫21. السنن، الرتمذي، حممد بن عيسى أبو عيسى السلمي، السنن، أمحد حممد شاكر وآخرون، دار إحياء‬ ‫الرتاث العريب، بريوت، (در، دت).‬ ‫21. السنن، النسائي اجملتىب،أبو عبد الرمحن النسائي، حتقيق عبد الفتاح أبو غدة،ط2، مكتب املطبوعات‬ ‫اإلسالمية، حالب، 6041ه ، 6291م.‬ ‫91. ح سنن أيب داود، أبو حممد حممود بن أمحد بن موسى بن أمحد بن حسني الغيايب احلنفى بدر الدين‬ ‫شر‬ ‫العيىن (املتوىف:552ه )، احملقق:أبو املنذر خالد بن إبراهيم املصري، مكتبة الرشد–الرياض،‬ ‫ط0241،1ه -9991م.‬ ‫02. ح صحيح البخاري، أ بو احلسن علي بن خلف بن عبد امللك بن بطال البكري القرطيب، حتقيق: أبو‬ ‫شر‬ ‫متيم ياسر بن إبراهيم مكتبة الرشد، الرياض، ط2، 241ه - 002م.‬ ‫12. شعب اإلميان، أبو بكر البيهقي، دار الكتب العلمية، بريوت، ط41، 0141ه .‬ ‫22. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، إمساعيل بن محاد اجلوهري، حتقيق:أمحد عبد الغفور عطار، دار‬ ‫العلم للماليني-بريوت، ط4، 2041ه-2291م.‬ ‫2. صحيح البخاري، حتقيق مصطفى ديب البغا، دار اهلدى، اجلزائر، 2991م.‬ ‫42. صحيح مسلم، احملقق حممد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء الرتاث العريب، بريوت، (در، دت).‬ ‫52. الطبعة الثانية ، 041‬ ‫62. فتح الباري ح صحي ح البخاري، أمحد بن علي ابن حجر العسقالين أبو الفضل، دار املعرفة، بريوت،‬ ‫شر‬ ‫(در، دت).‬ ‫22. فتح الباري ح صحيح البخاري، زين الدين أيب ج عبد الرمحن ابن شهاب الدين البغدادي مث‬ ‫الفر‬ ‫شر‬ ‫الدمشقي الشهري بابن رجب، دار ابن اجلوزي– السعودية، الدمام- 2241ه .‬ ‫22. فتح القدير اجلامع ب ني فين الرواية والدراية من علم التفسري، لإلمام حممد بن علي بن حممد كاين‬ ‫الشو‬ ‫املتوىف عام 0521ه ، طبعة دار الفكر ودار الكلم الطيب، بريوت–لبنان، الطبعة األوىل عام 4141ه -‬ ‫4991م.‬ ‫92. القاموس احمليط، الفريوز آبادي، جمد الدين حممد بن يعقوب، مكتبة النووي، دمشق، (در، دت).‬ ‫0 . جلامع ألحكام القرآن، أبو عبد اهلل حممد بن أمحد بن أيب بكر بن ح األنصاري اخلزرجي مشس الدين‬ ‫فر‬ ‫القرطيب، احملقق: هشام مسري البخاري، دار عامل الكتب، الرياض، اململكة العربية السعودية، 241ه -‬ ‫002م.‬ ‫1 . لسان العرب، حممد بن مكرم بن منظور األفريقي املصري ، دار صادر–بريوت، ط1، (د ت).‬ ‫23‬