1. مسارات العمران من خلل القرآن / دراسات إسلمية
أ.د. زيد بوشعراء | أستاذ في جامعة محمد الول، وجامعة ابن طفيل / المغرب.
أن تعمر جماعة من الناس بقعة من الرض معناه أن تحولها إلى مكان حي مستجمع
لمقومات الحياة الجماعية المنظمة المنتجة المنة المستقرة. وذلك بما تؤسس فيه من أنواع
البنيان الذي يجلب لها وينمي كل ما تعتقده مصلحة، ويدرأ عنها ويزيل كل ما تظنه مفسدة
من مساكن وأحياء وأسوار وحصون وقناطر وطرقات وأسواق وبساتين وسدود ومصانع
وحمامات.. ونحو ذلك من المرافق الحيوية اللزمة لي تمدين، وكذا بما تنمي فيه من نسلها
ووجودها البشري ومواردها الحيوانية والزراعية. ويلحق بذلك مجازً ما كان من أسبابه من
ا
العلم والتخطيط والتنظيم والقوة، وما كان من ثمراته من قدرة على صناعة الجهزة التي
يحتاج إليها العمران والحياة العمرانية وما إلى ذلك.
كل ما أنجزه الناس قبل مجيء السلم، مما كان من هذا القبيل وبهذا القدر، القرآن عده
عمرانً. وقد تفاوتت الجماعات البشرية فيه ك ّا ونوعً بحسب تفاوتها فيما أوتيت من الخبرة
ا م ا
الفنية والعلم الدنيوي والقوة السلطانية، فمنها من كانت أكثر إعمارً كما قال ال تعالى: ﴿ َا ُوا
كن ا
َ َ ّ ِنْ ُمْ ُ ّ ً ََ َا ُوا ا َرْ َ َ َ َ ُو َا َكْ َ َ ِ ّا َ َ ُو َا﴾)الروم:9(، وفيه إشارة إلى أن
أشد م ه قوة وأث ر ل ض وعمر ه أ ثر مم عمر ه
الـ"أشد قوة" كان أكثر إعمارً. ومنها من بلغ العمران عندها الذروة في الجمال والتنوع
ا
فكانت فارهة بارعة في صناعة العمران. وقد أشار القرآن إلى ذلك في عدة مواطن منها قوله
تعالى: ﴿ َ ّى ِ َا َ َ َ ِ ا َرْ ُ ُخْ ُ َ َا َا ّ ّ َتْ﴾)يونس:42(، وقوله تعالى: ﴿ َ َحْ َا ََيْ ِمْ
فت ن عل ه حت إذ أخذت ل ض ز رفه و زين
َبْ َابَ ُ ّ َيْ ٍ﴾)النعام:44(، وقوله: ﴿ َُو ِ َتْ ِنْ ُ ّ َيْ ٍ﴾)النمل:32(، وقوله في بعض
وأ تي م كل ش ء أ و كل ش ء
المم إنها كانت: ﴿َحْ َ ُ َ َا ًا َ ِئْ ًا﴾)مريم:47(، أي يعيشون في حال أفضل من حال العرب
أ سن أث ث ور ي
أجود تجهيزً وأحسن منظراً من الناحية العمرانية.
ا
ووصف القرآن لعمالهم تلك بأنها عمارة للرض ل يلزم منه أن ما عداه ليس من العمران،
بل كل إنجاز حضاري لحق جعلت به المجتمعات حياتها آمن وأسهل وأجمل وأرفه مما هو
ثمرة لتطور علومها وخبراتها وقدراتها وأذواقها هو أولى شيء بالدخول في مفهوم العمران.
وإن عد القرآن إنجازات غير المؤمنين عمرانً يعني أن مفهوم العمران مفهوم محايد وأنه ل
ا
يشترط في تسمية الشيء عمرانا أن يكون سالما من المكدرات الفكرية والخلقية. وإن كان
العمران بعد ذلك قاب ً لن ينعت بالصلح أو بالفساد.
ل
على أن هذا العمران ما كان النسان لينجز منه شيئً لول أن ال تعالى هيأ له أسبابه.
ا
تهيئة ال لسباب العمران
هيأ ال للنسان كل ما يتوقف عليه العمران.
أ- جعل في الرض قابلية للعمران: فجعلها أولً صالحة لستقبال ما يمكن أن يحدثه النسان
وأ ق ف ل ض
من العمارة، وذلك بما ألقى فيها من الجبال التي تحفظ استقرار قشرتها: ﴿ ََلْ َى ِي ا َرْ ِ
َ َا ِ َ َنْ َ ِي َ ِ ُمْ﴾)النحل:51(، وكذلك بما قدر فيها من الجاذبية التي تثبت البنيان، فكانت
رو سي أ تم د بك
2. بذلك قرارً: ﴿َ ّنْ َ َ َ ا َرْ َ َ َا ًا﴾)النمل:16(، ولول ذلك ما استقرت على الرض لبنة
ا أم جعل ل ض قر ر
فوق أخرى.
وجعل الرض أيضً طوع إرادة النسان ذلول له صالحة لنتاج ما يحتاج إليه: ﴿ َ َا َكَ ِي َا
وب ر ف ه ا
هو لذ جعل لكم ل ض
َ َ ّ َ ِي َا َقْ َا َ َا ِي َرْ َ َ ِ َ ّامٍ َ َاءً ِل ّا ِِي َ﴾)فصلت:01(، ﴿ ُ َ اّ ِي َ َ َ َ ُ ُ اْ َرْ َ
وقدر ف ه أ و ته ف أ بعة أي سو ل س ئل ن
َُو ً َامْ ُوا ِي َ َا ِ ِ َا َ ُُوا ِنْ ِزْ ِ ِ﴾)الملك:51(.
ذل ل ف ش ف من كبه وكل م ر قه
بـ– يسر ال للنسان حركته في الرض: فجعل النجوم للنسان علمات يهتدي بها في
ظلمات البر والبحر: ﴿ َ ِال ّجْ ِ ُمْ َهْ َ ُو َ﴾)النحل:61(، ﴿ َ ُ َ اّ ِي َ َ َ َ ُ ُ ال ّ ُومَ ِ َهْ َ ُوا
وهو لذ جعل لكم نج لت تد وب ن م ه ي تد ن
ِ َا ِي ُُ َا ِ الْ َ ّ َالْ َحْ ِ﴾)النعام:79(.
به ف ظلم ت بر و ب ر
وهيأ للنسان المركب الذي يحمله ويحمل أثقاله إلى أبعد المواطن؛ هيأ له المركب الطبيعي
وت مل أ ق لك إل بلد ل تك ن ب لغ ه إل بشق ل ف إن ربك لرء ف
الذي هو الدواب: ﴿ َ َحْ ِ ُ َثْ َاَ ُمْ َِى ََ ٍ َمْ َ ُو ُوا َاِ ِي ِ ِ ّ ِ ِ ّ ا َنْ ُسِ ِ ّ َ ّ ُمْ َ َ ُو ٌ
َ ِي ٌ * َالْ َيْ َ َالْ ِ َالَ َالْ َ ِي َ ِ َرْ َ ُو َا َ ِي َ ً َ َخُْ ُ َا َ َعَْ ُو َ﴾)النحل:7-8(، وهيأ له
رح م و خ ل و بغ و حم ر لت كب ه وز نة وي لق م ل ت لم ن
المركب الصناعي وهو السفينة التي صنعها نوح عليه السلم بوحي من ربه سبحانه فكانت
أول سفينة في تاريخ البشرية: ﴿ ََوْ َيْ َا َِيْ ِ َنِ اصْ َ ِ الْ ُلْكَ َِعْ ُ ِ َا َ َحْ ِ َا﴾)المؤمنون:72(.
نع ف بأ ينن وو ين فأ ح ن إل ه أ
وهذا يعني أن حركة النسان في الرض يسرها ال بخلقه وبوحيه معً فحمله برا وبحرً: ﴿
ا ا
ََقدْ َ ّمْ َا َ ِي آ َ َ َ َ َلْ َا ُمْ ِي الْ َ ّ َالْ َحْ ِ﴾)السراء:07(.
ول َ كر ن بن دم وحم ن ه ف بر و ب ر
وب ّن أن حمله إياهم كان بالمركبين المذكورين فقال في النعام: ﴿ ََ ُمْ ِي َا َ َا ِ ُ َِ َبُْ ُوا
ولك ف ه من فع ولت لغ ي
ََيْ َا َا َ ً ِي ُ ُو ِ ُمْ َ ََيْ َا َ ََى الْ ُلْكِ ُحْ َُو َ﴾)غافر:08(. وبذلك استطاع النسان
عل ه ح جة ف صد رك وعل ه وعل ف ت مل ن
في وقت مبكر من وجوده على الرض أن يخرج من العزلة ويكتشف الرض كلها قاراتها
وبحارها ويستفيد مما جعل ال له فيها من زينة وثروات.
جـ– جعل ال في الرض الحديد، أنزله من السماء، ليكون للنسان وسيلة من أهم وسائل
إنشاء العمران وحمايته: ﴿ ََنْ َلْ َا الْ َ ِي َ ِي ِ َأْ ٌ َ ِي ٌ َ َ َا ِ ُ ِل ّا ِ﴾)الحديد:52(.
وأ ز ن حد د ف ه ب س شد د ومن فع ل ن س
د– وبالجملة فقد سخر ال له سائر ما في الكون ليوظفه لمصلحته إنشاء لها وحفظا وتنمية
وتطويرا: ﴿ َ َ ّ َ َ ُمْ َا ِي ال ّ َا َاتِ َ َا ِي ا َرْض َ ِي ًا ِنْ ُ﴾)الجاثية:31(.
وسخر لك م ف سم و وم ف ل ِ جم ع م ه
هـ- وجعل ال النسان مهيأ لنشاء العمران:
• خلق ال في النسان حاجات وشهوات تدفعه إلى إشباعها وتلبيتها فينتج عن السعي
لشباعها إعمار الرض.
• وخلق فيه ذوقا وإحساسا بالجمال يتمكن به أن يضفي مسحة من الحسن والبهاء على
عمرانه.
• وخلق فيه عقل يقدر به على اكتشاف الكون وقوانين الحياة واكتساب العلم الذي بموجبه
ي م ش جن
يستطيع التحرك في أرجاء السماوات وتسخير ما في الكون لعمارة الرض: ﴿ َا َعْ َرَ الْ ِ ّ
و ل إن تط ت أ ت فذ م أ ط سم و ت و َ ض ف فذ ل ت فذ إل
َا ِنْسِ ِ ِ اسْ َ َعْ ُمْ َنْ َنْ ُ ُوا ِنْ َقْ َارِ ال ّ َا َا ِ َالرْ ِ َانْ ُ ُوا َ َنْ ُ ُونَ ِ ّ
ِ ُلْ َا ٍ﴾)الملك:33(.
بس ط ن
• وخلق فيه قدرة بدنية يستطيع بها تحمل أتعاب العمار ومشاق تحقيق المصالح.
و- ولما كانت مصالح النسان كثيرة ل يستطيع تحقيقها وحده فقد جعل ال بين الناس تفاوتا
في القدرات وتنوعا في المواهب يحتم اختصاص كل صنف وطبقة منهم في نوع من العمل،
ويجعل بينهم تكامل في الوظائف الحياتية: ﴿ َ َ َعْ َا َعْ َ ُمْ َوْ َ َعْ ٍ َ َ َا ٍ ِ َ ّ ِ َ َعْ ُ ُمْ
ورف ن ب ضه ف ق ب ض درج ت ليتخذ ب ضه
َعْ ًا ُخْ ِ ّا﴾)الزخرف:23(، ولول ذلك ما كان ثمة إمكان للعمران. ب ض س ري
ز- و لما كان العمران ل يتم إل بالتنظيم وكان التنظيم ل يتم إل بالملك، فقد جعل ال في
3. الناس قبول للملك، وهو تدبيرهم لمورهم تحت قوة سلطانية قاهرة تجلب لهم مصالحهم
العامة وتدرأ عنهم شرور أنفسهم وشرور سواهم.
هذه أهم أسباب العمران، وهي أسباب ضرورية وليس للنسان يد في إيجادها ول يملك أن
يدعي ذلك، بل لما جاء النسان إلى الوجود وجد ال قد أعد له كل شيء؛ المواد والدوافع
والذواق والقدرات والعقل والسنن الكونية والسنن الجتماعية.. وإنما بقي له بعد ذلك أن
يوظفها توظيفا تركيبيا، ويستثمرها في إنشاء ما يقدر عليه من العمران في كل زمان ومكان.
وبذلك كان النسان -المؤمن والكافر سواء- عامرا للرض وهو ما يدل عليه قوله تعالى على
لسان صالح: ﴿ ُ َ َنْ ََ ُمْ ِ َ ا َرْ ِ َاسْ َعْ َ َ ُمْ ِي َا﴾)هود:16(.
هو أ شأك من ل ض و ت مرك ف ه
لما كان النسان بطبيعته قد ينـزع إلى الخير وإلى الشر ويدرك بعض مصالح نفسه دون
بعض، فإن ما آتاه ال من أسباب العمران تلك كان منذ البداية محتمل لن يوظفه النسان في
الشر ولن يوظفه في الخير، كما كان غير كاف لتلبية كل حاجات النسان. ولذلك فإن ال
تعالى إلى جانب ما قدره للنسان من أسباب، قد زوده منذ خلقه بما يجعل عمرانه عمرانا
صالحً، فأرسل إليه رسله بالهدى الذي يؤهله لتسخير تلك السباب في تلبية كل حاجاته ا
المشروعة، ولتحقيق السعادة التامة الشاملة التي علمها وأرادها له خالقه اللطيف الخبير
وبارئه الرحيم الودود، إل أن بني آدم لم يستجيبوا كلهم لهذا العرض، فافترقوا في موقفهم من
الوحي إلى فريقين فسار العمران بذلك مسارين:
المسار العمراني الول
سار العمران مساراً ماديً أجوف مختل لما أشرف عليه فريق من بني آدم اختاروا أن يأخذوا ا
بأسباب العمران بعيدا عن هدى ال، وأصروا بعد نزول الوحي إليهم أن يبقوا متعاملين مع
أسباب العمران الميسرة لهم تعامل حرً ل يتقيد بأي قيد من دين.
ا
هذا الفريق من الناس لم يؤمن بال واليوم الخر وجعل الدنيا همه الوحيد ومبلغ علمه وغاية
سعيه، وتوسل بأسباب العمران لنيل شهواته )شهوة المال وشهوة النساء وشهوة الجاه(، ومع
ذلك لم يحل ال بينهم وبين ما يشتهون، بل فسح لهم المجال ليحققوا لنفسهم ما يظنون أنه
سعادة وخلى بينهم وبين أن يذوقوا نتائج اختيارهم العمراني.. ذلك ما قضاه ال في الزل
وذكره في كتابه فقال: ﴿ َنْ َانَ ُ ِي ُ الْ َا َِ َ َ ّلْ َا َ ُ ِي َا َا َ َا ُ ِ َنْ ُ ِي ُ﴾)السراء:81(،
م ك ير د ع جلة عج ن له ف ه م نش ء لم نر د
وقال: ﴿ َنْ َا َ ُ ِي ُ الْ َ َاةَ ال ّنْ َا َ ِي َ َ َا ُ َ ّ َِيْ ِمْ َعْ َاَ ُمْ ِي َا َ ُمْ ِي َا َ ُب َ ُو َ﴾)هود:
م ك ن ير د حي د ي وز نته نوف إل ه أ م له ف ه وه ف ه ل ي ْخس ن
51(، بمعنى أن من أحب نيل مآربه من غير واسطة الدين ومن غير تحمل لي كلفة دينية ل
يؤمن بها، فإن ال تعالى يحقق له ما يتمناه كامل غير منقوص. وقد سرد القرآن من هذا
المسار نماذج منها:
النموذج الول: هو عمران "عاد" الذي أشار القرآن إلى أبرز مظاهره فيما حكاه من قول
هود لـ"عاد": ﴿َ َبْ ُونَ ِ ُ ّ ِي ٍ آ َةً َعْ َ ُو َ * َ َ ّ ِ ُونَ َ َا ِ َ َ َّ ُمْ َخُْ ُو َ * َِ َا َ َشْ ُمْ
أت ن بكل ر ع ي ت بث ن وتتخذ مص نع لعلك ت لد ن وإذ بط ت
َ َشْ ُمْ َ ّا ِي َ * َا ّ ُوا ا َ ََ ِي ُونِ * َا ّ ُوا اّ ِي َ َ ّ ُمْ ِ َا َعَْ ُونَ * َ َ ّ ُمْ َِنْ َا ٍ َ َ ِينَ
أمدك بأ ع م وبن و تق لذ أمدك بم ت لم بط ت جب ر ن ف تق ل وأط ع
* َ َ ّا ٍ َ ُ ُو ٍ﴾ )الشعراء:821-431(، وقوله لهم أيضً: ﴿ َ َا َوْ ِ اسْ َغْ ِ ُوا َب ُمْ ُ ّ ُو ُوا
ا وي ق م ت فر ر ّك ثم ت ب وجن ت وعي ن
َِيْ ِ ُرْ ِ ِ ال ّ َا َ ََيْ ُمْ ِدْ َا ًا َ َ ِدْ ُمْ ُ ّةً َِى ُ ّ ِ ُمْ َ َ َ َ َّوْا ُجْ ِ ِي َ﴾)هود:25(،
إل ه ي سل سم ء عل ك م ر ر ويز ك قو إل قوتك ول تتول م رم ن
وهكذا فقد عرف "عاد" عمرانيا بما يلي:
• بناء علمات تدل على الطريق ﴿َ َبْ ُونَ ِ ُ ّ ِي ٍ آ َ ً﴾.
أت ن بكل ر ع ية
• بناء صهاريج تجمع ماء المطر في الشتاء يشرب منها المسافرون وينتفع منها الحاضرون
4. في وقت قلة المطر ﴿ َ َ ّ ِ ُو َ َ َا ِ َ﴾.
وتتخذ ن مص نع
• تنمية الموارد البشرية والحيوانية والزراعية ﴿َ َ ّ ُمْ ِأنْ َا ٍ َ َ ِينَ * و َ ّا ٍ َ ُ ُو ٍ﴾.
َجن ت وعي ن أمدك بَ ع م وبن
النموذج الثاني: هو عمران "ثمود" المشتهر بالبناء المتميز، قال لهم صالح: ﴿ َاذْ ُ ُوا ِذْ
و كر إ
جب ل
َ ََ ُمْ َُ َا َ ِنْ َعْ ِ َا ٍ َ َ َّ ُمْ ِي ا َرْ ِ َ ّ ِ ُو َ ِنْ ُ ُوِ َا ُ ُو ًا َ َنْ ِ ُونَ الْ ِ َا َ
جعلك خلف ء م ب د ع د وبوأك ف ل ض تتخذ ن م سه له قص ر وت حت
ُ ُو ًا َاذْ ُ ُوا آ َ َ ا ِ َ َ َعْ َوْا ِي ا َرْ ِ ُفْ ِ ِي َ﴾)العرافب:47(.
بي ت ف كر لء ل ول ت ث ف ل ض م سد ن
وقال لهم أيضا: ﴿َ ُتْ َ ُونَ ِي َا َا ُ َا آ ِ ِينَ * ِي َ ّا ٍ َ ُ ُونٍ * َ ُ ُوعٍ َ َخْ ٍ َلْ ُ َا
وزر ون ل ط عه ف جن ت وعي أت رك ف م ه هن من
َ ِي ٌ * َ َنْ ِ ُونَ ِ َ الْ ِ َا ِ ُ ُو ًا َا ِ ِي َ﴾)الشعراء:641-941(. فقد كانوا فارهين بمعنى
هض م وت حت من جب ل بي ت ف ره ن
عارفين حذقين بنحت البيوت من الجبال بحيث تصير بالنحت كأنها مبنية. نحتوا في الجبال
بيوتا يسكنونها في الشتاء هروبا من أخطار السيول، واتخذوا في السهول قصوراً ينـزلون
للسكن بها صيفً.
ا
النموذج الثالث: هو عمران "سبأ". فلقد كانت مدينتهم "مأرب" محفوفة بالجنات عن اليمين
والشمال يصطافون فيها ويستثمرونها، وكان ذلك بسبب تدبي ٍ ألهمهم ال إياه في اختزان
ر
لق ك ن
المياه النازلة في مواسم المطر بما بنوا من السد العظيم في "مأرب"، قال ال تعالى: ﴿َ َدْ َا َ
لسبإ ف م كنه ية جنت ن ع يم وشم ل كل م ر ق ربك و كر له ب دة طيبة ورب
ِ َ ٍَ ِي َسْ َ ِ ِمْ آ َ ٌ َ ّ َا ِ َنْ َ ِينٍ َ ِ َا ٍ ُُوا ِنْ ِزْ ِ َ ّ ُمْ َاشْ ُ ُوا َ ُ َلْ َ ٌ َ ّ َ ٌ َ َ ّ
َ ُو ٌ﴾)سبأ:51(. غف ر
النموذج الرابع: هو عمران "مدين" المشتهر بالرخاء القتصادي حتى قال لهم شعيب: ﴿ِ ّي
إن
َ َا ُمْ ِ َيْر﴾)هود:48(، أي إنكم في حال حسنة تجعلكم في غنى عن التطفيف. أر ك بخ
هذا ويذكر القرآن في مواطن أخرى أنواعاً عامة من العمران دون أن ينسبها إلى أقوام
بعينهم، فيذكر أن ال فتح لمم كل أبواب التنعم: ﴿ َتحْ َا ََيْ ِمْ َبْ َابَ ُ ّ َيْ ٍ﴾)النعام:44(.
ف َ ن عل ه أ و كل ش ء
كما يحكي أن ال آتى أقوامً المن من أعدائهم والرخاء في اقتصادهم: ﴿ َ َ َبَ ا ُ َ َلً
وضر ل مث ا
َرْ َ ً َا َتْ آ ِ َ ً ُطْ َ ِ ّةً َأْ ِي َا ِزْ ُ َا َ َ ًا ِنْ ُ ّ َ َا ٍ﴾)النحل:211(.
ق ية ك ن منة م مئن ي ت ه ر قه رغد م كل مك ن
ولقد كان وحي ال عبر التاريخ، يتتبع عمران هؤلء القوام من جهتين اثنتين؛ من جهة أولى
كان يبدي لهم ملحظاته النقدية إزاءه، ومن جهة ثانية كان يدلهم على العمران الذي هو
أرشد.
فقد كان رسل ال -عليهم السلم- يقبحون عمرانهم من حيث ما تأسس عليه من دوافع بعيدة
عن الرشد وما شابه من شوائب الكفر بأنعم ال، والظلم لعباد ال والفساد في أرض ال،
ويطلبون منهم تخليص عمرانهم منها. ثم كانوا في المقابل يعدونهم إن هم استجابوا أن يحفظ
ال عليهم عمرانهم ويزيدهم من أسبابه ويبارك لهم فيه، وبعبارة أخرى كانوا يعرضون
عليهم عمراناً أفضل من عمرانهم.
فعلى سبيل المثال، ما بنته "عاد" من علمات على الطرق خارج مدنها، كان عمل عبثي ً لم
ا
تدع إليه حاجة للمسافرين، ولعلها إنما أرادت به أن يكون آية دالة على تفوقها ومبلغ
قدرتها ﴿َ َبْ ُو َ ِ ُ ّ ِي ٍ آ َ ً َعْ َ ُو َ﴾.
أت ن ن بكل ر ع ية ت بث ن
وما اتخذته "عاد" أيضاً من صهاريج يتجمع فيها ماء المطر كي تستعمله في مقاومة الفناء
زمن القحط، قد أخطأت به الظن وضلت الطريق وضيعت الجهد والمال، واستبدلت الذي هو
أدنى بالذي هو خير، لن الماء الذي أمسكوه إنما هو ماء آسن ليس بالعذب، وقليل ل يمكن
أن ينفع كل الناس ول كل الرض. بينما كان يمكنهم -لو استجابوا- أن يحصلوا على ماء
السماء الذي هو ماء طهور ومبارك، ويرزقوه بالقدار الكافية وفي الوقات المناسبة
والراضي المحتاجة، ويعطون معه قوة إضافية تجعلهم أكثر إعمارً وأمنً، وقد قال لهم هود:
ا ا
5. ﴿ َ َا َوْ ِ اسْ َغْ ِ ُوا َ ّ ُمْ ُ ّ ُو ُوا َِيْ ِ ُرْ ِ ِ ال ّ َاءَ ََيْ ُمْ ِدْ َا ًا َ َ ِدْ ُمْ ُ ّةً َِى
وي ق م ت فر ربك ثم ت ب إل ه ي سل سم عل ك م ر ر ويز ك قو إل
ُ ّ ِ ُمْ﴾)هود:25(.قوتك
وكذلك ما نحتته "ثمود" من البيوت في الجبال فإن القرآن سجل عليه ملحظتين؛ إحداهما
تنصيصه على حذقهم في ذلك النحت: ﴿ َ َنْ ِ ُونَ ِ َ الْ ِ َا ِ ُ ُو ًا َا ِ ِي َ﴾)الشعراء:941(،
وت حت من جب ل بي ت ف ره ن
وثانيهما ذمه لباعثهم وهو اعتقادهم أن لجوءهم إلى هذه الوسيلة سيؤمنهم من كل
ف أ خذ هم
الخطار: ﴿ َ َا ُوا َن ِ ُونَ ِ َ الْ ِ َا ِ ُ ُو ًا آ ِ ِي َ﴾)الحجر:28(، لكن ذلك لم ينفعهم: ﴿ َ َ َ َتْ ُ ُ
وك ن ي ْحت من جب ل بي ت من ن
ال ّيْ َ ُ ُصْ ِ ِي َ﴾)الحجر:38(.
ص حة م بح ن
ومن عمروا الرض رافضين للوحي غير قابلين لعروض النبياء تنوعت مصائر عمرانهم:
المصير الول هو تدمير العمران. وقد يدمر على من تحته إذا كان بنيان قوم مكروا لدين ال
وأنبيائه، وفيه قال ال تعالى: ﴿ َدْ َ َ َ اّ ِينَ ِنْ َبِْ ِمْ ََ َى ا ُ ُنْ َا َ ُمْ ِنَ الْ َ َا ِ ِ َ َ ّ ََيْ ِ ُ
ق مكر لذ م ق له فأت ل ب ي نه م قو عد فخر عل هم
ال ّقْ ُ ِنْ َوْ ِ ِمْ ََ َا ُ ُ الْ َ َا ُ ِنْ َيْ ُ َ َشْ ُ ُو َ﴾)النحل:62(، وقال ال تعالى: ﴿ِ ّ َا
إنم س ف م ف قه وأت هم عذ ب م ح ث ل ي عر ن
َ َ ُ الْ َ َا ِ ال ّنْ َا َ َا ٍ َنْ َلْ َا ُ ِ َ ال ّ َا ِ َاخْ ََطَ ِ ِ َ َا ُ ا َرْ ِ ِ ّا َأْ ُ ُ ال ّا ُ َا َنْ َا ُ
مثل حي ة د ي كم ء أ ز ن ه من سم ء ف تل به نب ت ل ض مم ي كل ن س و ل ع م
َ ّى ِ َا َ َ َ ِ ا َرْ ُ ُخْ ُ َ َا َا ّ ّ َتْ َ َ ّ َهُْ َا َ ّ ُمْ َا ِ ُونَ ََيْ َا َ َا َا َمْ ُ َا َيْ ً َوْ
حت إذ أخذت ل ض ز رفه و زين وظن أ له أنه ق در عل ه أت ه أ رن ل ل أ
َ َا ًا َ َ َلْ َا َا َ ِي ًا ََنْ َمْ َغْ َ ِا َمْسِ َ َِ َ ُ َ ّ ُ ال َا ِ ِ َوْ ٍ َ َ َ ّ ُو َ﴾)يونس:42(.
نه ر فجع ن ه حص د كأ ل ت ن ب ل كذلك نفصل ي ت لق م يتفكر ن
وحصد الزرع؛ قطعه من منابته وهو معنى الستئصال والتدمير للعمران بما يظن به الناظر
كأن الرض لم تعمر من قبل: ﴿ ََنْ َمْ َغْنَ ِا َمْ ِ﴾. لم تعمر بالزرع، يقال غني المكان إذا
كأ ل ت ب ل س
عمر ومنه المغنى للمكان المأهول.
فقال في سبأ: ﴿ ََعْ َ ُوا ََرْ َلْ َا ََيْ ِمْ َيْ َ الْ َ ِمِ َ َ ّلْ َا ُمْ ِ َ ّ َيْ ِمْ َ ّ َيْنِ َ َا َيْ ُ ُلٍ َمْطٍ
فأ رض فأ س ن عل ه س ل عر وبد ن ه بجنت ه جنت ذو ت أك خ
ََث ٍ َ َيْ ٍ ِنْ ِدْ ٍ َِي ٍ﴾)سبأ:61(.
وأ ْل وش ء م س ر قل ل
المصير الثاني هو إخلء العمران. فيصبح خربا معطل عن منفعته التي شيد لجلها، بحيث
يهلك ال صانعي العمران ويدر عمرانهم غير مستعمل من بعدهم. وهذا مصير عمران من
استعجل عذاب ال، وأمن مكر ال واستهزأ بآياته، ومثاله ما جرى لـ"عاد" الذين أرسل ال
عليهم ريحا: ﴿ ُ َ ّ ُ ُ ّ َيْ ٍ َِمْ ِ َ ّ َا ََصْ َ ُوا َ ُ َى ِ ّ َ َا ِ ُ ُمْ َ َِ َ َجْ ِي الْ َوْمَ
تدمر كل ش ء بأ ر ربه فأ بح ل ير إل مس كنه كذلك ن ز ق
الْ ُجْ ِ ِي َ﴾)الحقاف:52(.
م رم ن
ومثاله أيضً ما جرى لـ"ثمود" كما قال ال تعالى: ﴿ َ ِلْكَ ُ ُو ُ ُمْ َا ِ َ ً ِ َا ََ ُوا﴾)النمل:
فت بي ته خ وية بم ظلم ا
وك أ ل ن م ق ية
25(، ومثال أقوام آخرين ممن طغوا في أرض ال وقال فيهم ال: ﴿ َ َمْ َهَْكْ َا ِنْ َرْ َ ٍ
َ ِ َتْ َ ِي َ َ َا َ ِلْكَ َ َا ِ ُ ُمْ َمْ ُسْ َنْ ِنْ َعْ ِ ِمْ ِ ّ َِي ً َ ُ ّا َحْ ُ الْ َا ِ ِي َ﴾)القصص:
بطر مع شته فت مس كنه ل ت ك م ب ده إل قل ل وكن ن ن و رث ن
85(.
المصير الثالث هو إيراث العمران لغير صانعيه وهو مصير عمران الناكثين لعهودهم.
ويمثل له القرآن بمصير بني قريظة من اليهود الذين خانوا عهدهم مع الرسول محمد عليه
وأ ز لذ ظ هر ه م أ ل كت م صي ص ه وقذف
الصلة والسلم وقال فيهم ال: ﴿ ََنْ َلَ اّ ِينَ َا َ ُو ُمْ ِنْ َهْ ِ الْ ِ َابِ ِنْ َ َا ِي ِمْ َ َ َ َ
ِي ُُو ِ ِ ُ ال ّعْبَ َ ِي ًا َقْ ُُونَ َ َأ ِ ُونَ َ ِي ًا * ََوْ َث ُمْ َرْ َ ُمْ َ ِ َا َ ُمْ ََمْ َاَ ُمْ ََرْ ًا
ف قل بهم ر فر ق ت تل وت ْسر فر ق وأ ر َك أ ضه ودي ره وأ و له وأ ض
َمْ َ َ ُو َا َ َا َ ا ُ ََى ُ ّ َيْ ٍ َ ِي ًا﴾)الحزاب:62-72(.
ل تطئ ه وك ن ل عل كل ش ء قد ر
وقال عن فرعون وملئه: ﴿ َمْ َ َ ُوا ِنْ َ ّا ٍ َ ُ ُونٍ * َ ُ ُوعٍ َ َ َا ٍ َ ِي ٍ * َ َعْ َ ٍ َا ُوا
وزر ومق م كر م ون مة ك ن ك ترك م جن ت وعي
ِي َا َا ِ ِينَ * َ َِ َ ََوْ َثْ َا َا َوْ ًا آ َ ِي َ﴾)الدخان:52-82(.
كذلك وأ ر ن ه ق م خر ن ف ه ف كه
على أن سنة ال قد جرت بأن ل يصير الذين ظلموا ول يصير عمرانهم إلى إحدى هذه
المصائر الثلث، إل بعد إنذار يتبعه إملء كما قال ال تعالى: ﴿ َ َا َهَْكْ َا ِنْ َرْ َ ٍ ِ ّ َ َا
وم أ ل ن م ق ية إل له
ُنْذ ُو َ﴾ )الشعراء:802(، وقال: ﴿ َ ِنَ الّيْ ِ َ َ ّحْ ُ َأدْ َا َ ال ّ ُو ِ﴾)الحج:04(. ويشمل
وم ل ل فسب ه وَ ب ر سج د م ِر ن
6. إملء ال لهم أن يسلط عليهم البأساء والضراء لعلهم يرجعون، ثم أن يمتعهم إلى أجل مسمى
إذا تمادوا في غيهم تنفيذا لوعده بأن ل يحرم مريدي الدنيا من الدنيا كما قال ال تعالى: ﴿ ََ َدْ
ولق
َرْ َلْ َا َِى ُ َ ٍ ِنْ َبِْ َ ََ َذْ َا ُمْ ِالْ َأْ َا ِ َال ّ ّاءِ َ َّ ُمْ َ َ َ ّ ُونَ * ََوْ َ ِذْ َا َ ُمْ َأْ ُ َا
فل ل إ ج ءه ب سن أ س ن إل أمم م ق لك فأخ ن ه ب ب س ء و ضر لعله يتضرع
فلم نس م ذكر به
َ َ ّ ُوا ََ ِنْ َ َتْ ُُو ُ ُمْ َ َ ّ َ َ ُ ُ ال ّيْ َا ُ َا َا ُوا َعْ َُونَ * ََ ّا َ ُوا َا ُ ّ ُوا ِ ِ
تضرع ولك قس قل به وزين لهم ش ط ن م ك ن ي مل
ف َ ن عل ه أ و كل ش ء حت إذ فرح بم أ ت أخ ن ه ب تة فإذ ه م لس ن فقطع
َتحْ َا ََيْ ِمْ َبْ َابَ ُ ّ َيْ ٍ َ ّى ِ َا َ ِ ُوا ِ َا ُو ُوا َ َذْ َا ُمْ َغْ َ ً َِ َا ُمْ ُبِْ ُو َ * َ ُ ِ َ
َاب ُ الْ َوْمِ اّ ِي َ ََ ُوا َالْ َمْ ُ ِ َ ّ الْ َاَ ِي َ﴾)النعام:24-54(.
د ِر ق لذ ن ظلم و ح د ل رب ع لم ن
المسار العمراني الثاني
لو شاء ال تعالى َجعل العمران إنجازً خاصاً بالكافرين ولكنه أبى، لنه قصد أن يبقى في
ا ل
الرض إيمان. ولو أنه فعل لعتقد الناس أن ل عمران إل مع الكفر، ولتركوا اليمان جملة،
قال ال تعالى: ﴿ ََوْ َ َنْ َ ُو َ ال ّا ُ ُ ّ ً َا ِ َ ً َ َ َلْ َا ِ َنْ َكْ ُ ُ ِال ّحْ َ ِ ِ ُ ُو ِ ِمْ ُ ُ ًا ِنْ
ول ل أ يك ن ن س أمة و حدة لجع ن لم ي فر ب ر من لبي ته سقف م
َ ّ ٍ َ َ َا ِ َ ََيْ َا َظْ َ ُو َ * َِ ُ ُو ِ ِمْ َبْ َا ًا َ ُ ُ ًا ََيْ َا َ ّ ِ ُو َ﴾)الزخرف:33-43(.
فضة ومع رج عل ه ي هر ن ولبي ته أ و ب وسرر عل ه يتكئ ن
قال ابن عاشور تعقيبً على تفسير ابن عباس للية: "ولول أن يصير الناس كفارً لخصصنا
ا ا
الكافرين بالمال والرفاهية، وتركنا المسلمين لما ادخرنا لهم في الخرة، فيحسب ضعفاء
العقول أن للكفر أثراً في حصول المال جعله ال جزاء لمن سماهم الكافرين، فيتبعوا دين
الكفر لتخيلهم الملزمة بين سعادة العيش وبين الكفر. وقد كان الناس في الجيال الولى
أصحاب أوهام وأغلط يجعلون للمقارنة حكم التسبب. ولذلك كان للمؤمنين أيضً عمرانهم
ا
كل نمد هؤلء
لينفصل العمران عن أن يكون ثمرة كفر أو إيمان. ومن ثم قال ال تعالى: ﴿ ُ ّ ُ ِ ّ َ ُ َ ِ
َه ُ َ ِ ِنْ َ َا ِ َ ّكَ َ َا َا َ َ َا ُ َ ّ َ َحْ ُو ًا * انْ ُرْ َيْ َ َ ّلْ َا َعْ َ ُمْ ََى
ظ ك ف فض ن ب ضه عل و َؤلء م عط ء رب وم ك ن عط ء ربك م ظ ر
َعْ ٍ﴾)السراء:02-12(. بض
فقد سار العمران إذن مسارً ثانيً، إل أنه كان مسارا راشدً. لنه كان بقيادة "قوم عابدين"
ا ا ا
اتبعوا هدى ال وجعلوه دليل إعمارهم ومنهاج تدبيرهم. ومما حكى القرآن فيه من النماذج
نموذج عمران سليمان عليه السلم ونموذج عمران ذي القرنين..
أما سليمان عليه السلم فقد أوتي علم الحضارة والعمران، وهو ما يشير إليه قوله تعالى على
لسان مل سليمان: ﴿ َُو ِي َا الْ ِلْمَ ِنْ َبِْ َا َ ُ ّا ُسِْ ِي َ﴾)النمل:24(. قال ابن عاشور: "أرادوا
وأ ت ن ع م ق له وكن م لم ن
بالعلم علم الحكمة الذي علمه ال سليمان ورجال مملكته ويشاركهم بعض أهل سبأ في بعضه،
فقد كانوا أهل معرفة أنشأوا بها حضارة مبهتة".
ومع هذا العلم أوتي سليمان من كل أسباب العمران ومظاهره: ﴿ َُو ِي َا ِنْ ُ ّ َيْ ٍ﴾)النمل:
وأ ت ن م كل ش ء
61(. وكان مما أوتيه تق ّم صناعي فائق وإبداع بنائي باهر.
د
يذكر القرآن من تقدمه الصناعي، أن ال تعالى يسر له إذابة النحاس وإسالته له على نحو دائم
من عيون معينة بما يمكنه من صناعة ما تحتاج إليه أمته؛ من السلحة والدرق والنية
والثاث وسائر الجهزة.. قال ال تعالى: ﴿ ََ َلْ َا َ ُ َيْ َ الْ ِطْ ِ﴾)سبأ:21(.
وأس ن له ع ن ق ر
ومن تقدمه في البنيان تكفي الصورة المثيرة التي ساقها القرآن مقترنة بدخول ملكة سبأ على
سليمان: ﴿ ِي َ َ َا ادْ ُِي ال ّرْحَ ََ ّا ََتْ ُ ح ِ َتْ ُ ُ ّ ً َ َ َ َتْ َنْ َا َيْ َا َا َ ِ ّ ُ َرْ ٌ
ق ل له خل ص فلم رأ ه َسب ه لجة وكشف ع س ق ه ق ل إنه ص ح
ُ َ ّ ٌ ِنْ َ َا ِي َ﴾)النمل:44(.
ممرد م قو ر ر
فقد كانت أرضية الصرح من زجاج سميك تحته ماء فيه سمك، وهذا "من بديع الصناعة التي
اختصت بها قصور سليمان في ذلك الزمان لم تكن معروفة في اليمن على ما بلغته من
حضارة وعظمة بناء".
7. وقد حكى القرآن أن سليمان عليه السلم انتقل من طور العمران المتميز بالبداع والحسن
والمتانة والوفرة والمحفوظ بالعدل والمزين بالرحمة إلى طور "ما بعد العمران"، فذكر
تشوفه لن يؤتى أقصى ما يمكن من السرعة في إنجاز الخدمات فقال: ﴿ َا َ َا َ ّ َا الْ َ ُ َ ّ ُمْ
ق ل ي أيه م َ أيك
ل
َأْ ِي ِي ِ َرْ ِ َا َبْ َ َنْ َأْ ُو ِي ُسِْ ِي َ * َا َ ِفْري ٌ ِنَ الْ ِ ّ َ َا آ ِي َ ِ ِ َبْ َ َنْ َ ُو َ ِنْ
ي ت ن بع شه ق ل أ ي ت ن م لم ن ق ل ع ت م جن أن ت ك به ق ل أ تق م م
َ َا ِ َ َِ ّي ََيْهِ َ َ ِ ّ َ ِي ٌ * َا َ اّ ِي ِنْ َ ُ ِلْ ٌ ِ َ الْ ِ َا ِ َ َا آ ِيكَ ِ ِ َبْ َ َنْ َرْ َ ّ َِيْكَ
مق مك وإن عل لقوي أم ن ق ل لذ ع ده ع م من كت ب أن ت به ق ل أ ي تد إل
َرْ ُ َ ََ ّا َآ ُ ُسْ َ ِ ّا ِنْ َ ُ َا َ َ َا ِنْ َضْ ِ َ ّي ِ َبُْ َ ِي ََشْ ُ ُ َمْ َكْ ُ ُ﴾)النمل:83-04(.
ط فك فلم ر ه م تقر ع ده ق ل هذ م ف ل رب لي لون أأ كر أ أ فر
هذا المشار إليه من عمران سليمان -وإن كان بعضه معدودا من خصوصياته- يشير إلى أن
ابتغاءه أمر جائز في ذاته، وأن المؤمنين هم أولى الناس بأن ييسر ال لهم امتلك بعضه أو
ما يقاربه من الوسائل المتقدمة المعينة على تحقيق الجودة والبسطة في العمارة، والوفرة
والتنوع في النتاج، والسرعة والسهولة في النجاز.
وأما ذو القرنين فقد زوده ال بأسباب العمران ووسائل التصرف في الرض فقال: ﴿ِ ّا َ ّ ّا
إن مكن
َ ُ ِي ا َرْ ِ َآ َيْ َا ُ ِنْ ُ ّ َيْ ٍ َ َ ًا﴾)الكهف:48(. وقد استعمل ما أوتي من تلك السباب
له ف ل ض و ت ن ه م كل ش ء سبب
في القضاء على الظلم حيثما وجده إما بمعاقبة الظالمين أو بكف أيديهم عن المستضعفين،
فجاب الرض شرقً وغربً، ل ليستعبد شعوبً لصالح لنفسه أو شعبه، ول ليستغل خيراتهم
ا ا ا
لجل مجد نفسه أو رفاهية فئته، ولكن ليمل الرض رحمة وعدل كما ملئت عذابا وجوراً ل
يسأل الناس خللها أجرً على اتعابه، بل ل يقبل منهم مقابل مال ّا لما يسدي إليهم من النصرة
ي ا
والحماية. ولذلك كانت إنجازاته العمرانية إنجازات نافعة راشدة ل عبث فيها ول غي. وكان
منها توظيفه ما أوتيه من خبرة صناعية وقوة سلطانية في بناء سد منيع من حديد ونحاس يقي
قوما ضعفاء من عدوان يأجوج ومأجوج، ويمنع من إفسادهم في الرض. فكان عمرانه هذا
عمرانً وقائيً حمى عمرانا قائمً من تخريب المخربين، وكان إلى ذلك عمرانا جميل. فقد
ا ا ا
جاء في بعض الروايات أن السد كان "كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء". قال
ثم أ ب سبب حت إذ بلغ ب سد ن وجد م د نهم ق م ل
القرآن في عمله العظيم هذا: ﴿ ُ ّ َتْ َعَ َ َ ًا * َ ّى ِ َا ََ َ َيْنَ ال ّ ّيْ ِ َ َ َ ِنْ ُو ِ ِ َا َوْ ًا َ
ق ل ي ذ ق ن ن إن ي ْج وم ْج م سد ن ف ل ض فه ن عل
َ َا ُو َ َفْ َ ُونَ َوْلً * َاُوا َا َا الْ َرْ َيْ ِ ِ ّ َأ ُوجَ َ َأ ُوجَ ُفْ ِ ُو َ ِي ا َرْ ِ َ َلْ َجْ َ ُ
يك د ن ي قه ق
َ َ َرْ ًا ََى َنْ َجْ َ َ َيْ َ َا َ َيْ َ ُمْ َ ّا * َا َ َا َ ّ ّي ِي ِ َ ّي َيْ ٌ ََ ِي ُو ِي ِ ُ ّ ٍ َجْ َلْ
لك خ ج عل أ ت عل ب نن وب نه سد ق ل م مكن ف ه رب خ ر فأع ن ن بقوة أ ع
َيْ َ ُمْ َ َيْ َ ُمْ َدْ ًا * آ ُو ِي ُ َرَ الْ َ ِي ِ َ ّى ِ َا َا َى بيْنَ ال ّ َ َيْ ِ َا َ انْ ُ ُوا َ ّى ِ َا َ ََ ُ
ب نك وب نه ر م ت ن زب حد د حت إذ س و َ صدف ن ق ل فخ حت إذ جعله
َا ًا َا َ آ ُو ِي ُفْ ِغْ ََيْهِ ِطْ ًا * َ َا اسْ َا ُوا َنْ َظْ َ ُو ُ َ َا اسْ َ َا ُوا َ ُ َقْ ًا﴾)الكهف:
ن ر ق ل ت ن أ ر عل ق ر فم ط ع أ ي هر ه وم تط ع له ن ب
29-79(.