SlideShare uma empresa Scribd logo
1 de 14
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 105   المائدة
فإنّه لما ذكر مكابرة المشركين وإعراضهم عن دعوة الخير عقّبه بتعليم المسلمين  حدود انتهاء المناظرة والمجادلة  إذا ظهرت المكابرة ، وعذر المسلمين بكفاية قيامهم بما افترض الله عليهم من الدعوة إلى الخير ، فأعلمهم هنا أن  ليس تحصيل أثر الدعاء على الخير بمسؤولين عنه  ، بل على الداعي بذل جهده وما عليه إذا لم يصغ المدعوّ إلى الدعوة ، كما قال تعالى  : {  إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء  } [ القصص  : 56] .
فقوله تعالى  : {  عليكم أنفسكم  }  هو بنصب  {  أنفسكم  }  أي  الزموا أنفسكم  ، أي احرصوا على أنفسكم  .  والمقام يبيّن المحروص عليه ، وهو  ملازمة الاهتداء  بقرينة قوله  : {  إذا اهتديتم  }  ، وهو يشعر بالإعراض عن الغير وقد بيّنه بقوله  : {  لاَ يضرّكم من ضلّ  } .
فجملة  {  لا يضرّكم من ضلّ  }  تتنزّل من التي قبلها منزلة البيان فلذلك فصلت ، لأنّ أمرهم بملازمة أنفسهم مقصود منه دفع ما اعتراهم من الغمّ والأسف على عدم قبول الضالّين للاهتداء ، وخشية أن يكون ذلك لتقصير في دعوتهم ، فقيل لهم  :  عليكم أنفسكم ،  أي اشتغلوا بإكمال اهتدائكم  .
وقوله  : {  إذا اهتديتم  }  ظرف يتضمّن معنى الشرط يتعلّق ب  {  يضرّكم  } .  وقد شمل الاهتداء جميع ما أمرهم به الله تعالى  .  ومن جملة ذلك دعوة الناس إلى الخير و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  ، فلو قصروا في الدعوة إلى الخير والاحتجاج له وسكتوا عن المنكر لضرّهم من ضلّ لأنّ إثم ضلاله محمول عليهم  .
فلا يتوهّم من هذه الآية أنّها رخصة للمسلمين في ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأنّ جميع ذلك  واجب  بأدلّة طفحت بها الشريعة  .  فكان ذلك داخلاً في شرط  {  إذا اهتديتم  } .
  ولما في قوله  {  عليكم أنفسكم  }  من الإشعار بالإعراض عن فريق آخر وهو المبيّين بِ  {  من ضلّ  }  ، ولما في قوله  {  إذا اهتديتم  }  من خفاء تفاريع أنواع الاهتداء؛ عرض لبعض الناس قديماً في هذه الآية فشكّوا في أن يكون مُفادها الترخيص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  .
وقد حدث ذلك الظنّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أخرج الترمذي عن أبي أمية الشعباني أنّه قال  :  سألت عنها أبا ثعلبة الخشني ، فقال لي  :  سألتَ عنها خبيراً ، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال  :  "   بل ائتمروا بالمعروف وتناهَوا عن المنكر حتّى إذا رأيت شحّاً مُطَاعَاً وهوى مُتَّبعاً وَدنْيَا مُؤثرَة وإعجابَ كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصّة نفسك ودَعَ العوّام   "
  وَحَدَثَ في زَمَن أبي بكر  :  أخرَجَ أصحابُ  « السنن »  أنّ أبا بكر الصديق بلغه أنّ بعض الناس تأوّل الآية بسقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال  : {  يأيّها الناس إنّكم تَقْرَأونَ هذه الآية يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم  }  وإنّكم تضعونها على غير موضعها وإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول  :  إنّ الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيّرونه يوشك الله أن يعمّهم بعقابه ، وإنّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعذاب من عنده  .
وعن ابن مسعود أنّه قرئت عنده هذه الآية فقال  :  إنّ هذا ليس بزمانها إنّها اليوم مقبولة  (  أي النصيحة  )  ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يُقبل منكم فحينئذٍ عليكم أنفسكم  (  يريد أن لا يجب عليهم قتال لتقبل نصيحتهم  ) .  وعنه أيضاً  :  إذا اختلفت القلوب وألبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فامرُؤ ونفسه  .
وعن عبد الله بن عمر أنه قال  :  إنّها  (  أي هذه الآية  )  ليست لي ولا لأصحابي لأنّ رسول الله قال  : "  ألا ليبلّغ الشاهد الغائب  "  فكنّا نحن الشهود وأنتم الغيّب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيؤون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم  .
  فماصْدقُ هذه الآية هو مَاصْدقُ قول النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر  : "  من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان  "  فإنّ معنى الاستطاعة التمكّن من التغيير  دون ضُرّ يلحقه  أو يلحق عموم الناس  كالفتنة   .  فالآية تفيد الإعراض عن ذلك إذا  تحقّق عدم الجدوى  بعد الشروع في ذلك ، ويلحق بذلك إذا ظهرت المكابرة وعدم الانتصاح كما دلّ عليه حديث أبي ثعلبة الخشني ، وكذلك إذا خيف حصول الضرّ للداعي  بدون جدوى  ، كما دلّ عليه كلام ابن مسعود المذكور آنفاً  .
وقوله  : {  إلى الله مرجعكم جميعاً  }  عذر للمهتدي ونذارة للضالّ  .  وقدّم المجرور للاهتمام بمتعلّق هذا الرجوع وإلقاء المهابة في نفوس السامعين ، وأكّد ضمير المخاطبين بقوله  : {  جميعاً  }  للتنصيص على العموم وأن ليس الكلام على التغليب  .   والمراد بالإنباء بما كانوا يعملون الكناية عن إظهار أثر ذلك من الثواب للمهتدي الداعي إلى الخير ، والعذاب للضالّ المعرض عن الدعوة  .
الإمام الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله

Mais conteúdo relacionado

Mais procurados

Mais procurados (19)

أهل الفجر Al Fajr Prayer
أهل الفجر Al Fajr Prayerأهل الفجر Al Fajr Prayer
أهل الفجر Al Fajr Prayer
 
نعم هذا صحيح
نعم هذا صحيحنعم هذا صحيح
نعم هذا صحيح
 
أهل الفجر..
أهل الفجر..أهل الفجر..
أهل الفجر..
 
اهل الفجر
اهل الفجراهل الفجر
اهل الفجر
 
Fajr
FajrFajr
Fajr
 
اهل الفجر
اهل الفجراهل الفجر
اهل الفجر
 
ثواب العمل الصالح
ثواب العمل الصالحثواب العمل الصالح
ثواب العمل الصالح
 
ثواب العمل الصالح
ثواب العمل الصالحثواب العمل الصالح
ثواب العمل الصالح
 
من عاش على شيء بعث عليه‏
من عاش على شيء بعث عليه‏من عاش على شيء بعث عليه‏
من عاش على شيء بعث عليه‏
 
Salat
SalatSalat
Salat
 
Pray1
Pray1Pray1
Pray1
 
Al Fajr Prayer
Al Fajr PrayerAl Fajr Prayer
Al Fajr Prayer
 
Fajr
FajrFajr
Fajr
 
صلاة الفجر !!
صلاة الفجر !!صلاة الفجر !!
صلاة الفجر !!
 
Fajer
FajerFajer
Fajer
 
Fajr Praying
Fajr PrayingFajr Praying
Fajr Praying
 
كرامة أهل الفجر
كرامة أهل الفجركرامة أهل الفجر
كرامة أهل الفجر
 
حقوق الزوجه
حقوق الزوجهحقوق الزوجه
حقوق الزوجه
 
ينابيع المغفرة
ينابيع المغفرةينابيع المغفرة
ينابيع المغفرة
 

Semelhante a يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ

خذ العفو
خذ العفوخذ العفو
خذ العفوbroog3
 
ثلاثون مثالا على دلالة الاقتضاء
ثلاثون مثالا على دلالة الاقتضاءثلاثون مثالا على دلالة الاقتضاء
ثلاثون مثالا على دلالة الاقتضاءربيع أحمد
 
الحكم الجليلة من الأمر بجهاد الكفار و الرد على المغرضين و الزائغين
الحكم الجليلة من الأمر بجهاد الكفار و الرد على المغرضين و الزائغينالحكم الجليلة من الأمر بجهاد الكفار و الرد على المغرضين و الزائغين
الحكم الجليلة من الأمر بجهاد الكفار و الرد على المغرضين و الزائغينربيع أحمد
 
الدروس المستفادة من قوله تعالى لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرّ...
الدروس المستفادة  من قوله تعالى لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرّ...الدروس المستفادة  من قوله تعالى لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرّ...
الدروس المستفادة من قوله تعالى لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرّ...ربيع أحمد
 
وصايا القرآن ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
وصايا القرآن ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلموصايا القرآن ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
وصايا القرآن ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلمغايتي الجنة
 
الدرر والفوائد من حديث أمرت ان أقاتل الناس والرد على المغرضين والزائغين
الدرر والفوائد من حديث أمرت ان أقاتل الناس والرد على المغرضين والزائغينالدرر والفوائد من حديث أمرت ان أقاتل الناس والرد على المغرضين والزائغين
الدرر والفوائد من حديث أمرت ان أقاتل الناس والرد على المغرضين والزائغينربيع أحمد
 
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْفَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْF El Mohdar
 
ثلاثون مثالا على مفهوم الموافقة
ثلاثون مثالا على مفهوم الموافقةثلاثون مثالا على مفهوم الموافقة
ثلاثون مثالا على مفهوم الموافقةربيع أحمد
 
33 سبباً للخشوع في الصلاة
33 سبباً للخشوع في الصلاة33 سبباً للخشوع في الصلاة
33 سبباً للخشوع في الصلاةF El Mohdar
 
عشرون مثالا على ما صيغته الخبر و لكنه إنشائي المعنى
عشرون مثالا على ما صيغته الخبر و لكنه إنشائي المعنىعشرون مثالا على ما صيغته الخبر و لكنه إنشائي المعنى
عشرون مثالا على ما صيغته الخبر و لكنه إنشائي المعنىربيع أحمد
 
انتكاس منتسب للسلفية من السلفية إلى الكفر الدروس و العبر
انتكاس منتسب للسلفية من السلفية إلى الكفر  الدروس و العبرانتكاس منتسب للسلفية من السلفية إلى الكفر  الدروس و العبر
انتكاس منتسب للسلفية من السلفية إلى الكفر الدروس و العبرربيع أحمد
 
بحث عن الاخلاص كقيمة فى العمل والحياة
بحث عن الاخلاص كقيمة فى العمل والحياةبحث عن الاخلاص كقيمة فى العمل والحياة
بحث عن الاخلاص كقيمة فى العمل والحياةأمنية وجدى
 
ثلاثون مثالا على مفهوم المخالفة
ثلاثون مثالا على مفهوم المخالفةثلاثون مثالا على مفهوم المخالفة
ثلاثون مثالا على مفهوم المخالفةربيع أحمد
 
مقاصد الشريعة الإسلامية 2
مقاصد الشريعة الإسلامية  2 مقاصد الشريعة الإسلامية  2
مقاصد الشريعة الإسلامية 2 Sami Bahi
 
الطلاق في الحيض حكمه و أثره
الطلاق في الحيض  حكمه و أثرهالطلاق في الحيض  حكمه و أثره
الطلاق في الحيض حكمه و أثرهربيع أحمد
 
افات اللسان
افات اللسانافات اللسان
افات اللسانalakeeda
 
الصدقة
الصدقةالصدقة
الصدقةmido224
 
Sadaqah
SadaqahSadaqah
Sadaqahhdoban
 

Semelhante a يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ (20)

خذ العفو
خذ العفوخذ العفو
خذ العفو
 
ثلاثون مثالا على دلالة الاقتضاء
ثلاثون مثالا على دلالة الاقتضاءثلاثون مثالا على دلالة الاقتضاء
ثلاثون مثالا على دلالة الاقتضاء
 
الحكم الجليلة من الأمر بجهاد الكفار و الرد على المغرضين و الزائغين
الحكم الجليلة من الأمر بجهاد الكفار و الرد على المغرضين و الزائغينالحكم الجليلة من الأمر بجهاد الكفار و الرد على المغرضين و الزائغين
الحكم الجليلة من الأمر بجهاد الكفار و الرد على المغرضين و الزائغين
 
الدروس المستفادة من قوله تعالى لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرّ...
الدروس المستفادة  من قوله تعالى لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرّ...الدروس المستفادة  من قوله تعالى لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرّ...
الدروس المستفادة من قوله تعالى لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرّ...
 
وصايا القرآن ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
وصايا القرآن ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلموصايا القرآن ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
وصايا القرآن ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
 
الدرر والفوائد من حديث أمرت ان أقاتل الناس والرد على المغرضين والزائغين
الدرر والفوائد من حديث أمرت ان أقاتل الناس والرد على المغرضين والزائغينالدرر والفوائد من حديث أمرت ان أقاتل الناس والرد على المغرضين والزائغين
الدرر والفوائد من حديث أمرت ان أقاتل الناس والرد على المغرضين والزائغين
 
التقوى
التقوىالتقوى
التقوى
 
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْفَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
 
ثلاثون مثالا على مفهوم الموافقة
ثلاثون مثالا على مفهوم الموافقةثلاثون مثالا على مفهوم الموافقة
ثلاثون مثالا على مفهوم الموافقة
 
33 سبباً للخشوع في الصلاة
33 سبباً للخشوع في الصلاة33 سبباً للخشوع في الصلاة
33 سبباً للخشوع في الصلاة
 
عشرون مثالا على ما صيغته الخبر و لكنه إنشائي المعنى
عشرون مثالا على ما صيغته الخبر و لكنه إنشائي المعنىعشرون مثالا على ما صيغته الخبر و لكنه إنشائي المعنى
عشرون مثالا على ما صيغته الخبر و لكنه إنشائي المعنى
 
انتكاس منتسب للسلفية من السلفية إلى الكفر الدروس و العبر
انتكاس منتسب للسلفية من السلفية إلى الكفر  الدروس و العبرانتكاس منتسب للسلفية من السلفية إلى الكفر  الدروس و العبر
انتكاس منتسب للسلفية من السلفية إلى الكفر الدروس و العبر
 
بحث عن الاخلاص كقيمة فى العمل والحياة
بحث عن الاخلاص كقيمة فى العمل والحياةبحث عن الاخلاص كقيمة فى العمل والحياة
بحث عن الاخلاص كقيمة فى العمل والحياة
 
ثلاثون مثالا على مفهوم المخالفة
ثلاثون مثالا على مفهوم المخالفةثلاثون مثالا على مفهوم المخالفة
ثلاثون مثالا على مفهوم المخالفة
 
م 5
م 5م 5
م 5
 
مقاصد الشريعة الإسلامية 2
مقاصد الشريعة الإسلامية  2 مقاصد الشريعة الإسلامية  2
مقاصد الشريعة الإسلامية 2
 
الطلاق في الحيض حكمه و أثره
الطلاق في الحيض  حكمه و أثرهالطلاق في الحيض  حكمه و أثره
الطلاق في الحيض حكمه و أثره
 
افات اللسان
افات اللسانافات اللسان
افات اللسان
 
الصدقة
الصدقةالصدقة
الصدقة
 
Sadaqah
SadaqahSadaqah
Sadaqah
 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ

  • 1. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ 105 المائدة
  • 2. فإنّه لما ذكر مكابرة المشركين وإعراضهم عن دعوة الخير عقّبه بتعليم المسلمين حدود انتهاء المناظرة والمجادلة إذا ظهرت المكابرة ، وعذر المسلمين بكفاية قيامهم بما افترض الله عليهم من الدعوة إلى الخير ، فأعلمهم هنا أن ليس تحصيل أثر الدعاء على الخير بمسؤولين عنه ، بل على الداعي بذل جهده وما عليه إذا لم يصغ المدعوّ إلى الدعوة ، كما قال تعالى : { إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } [ القصص : 56] .
  • 3. فقوله تعالى : { عليكم أنفسكم } هو بنصب { أنفسكم } أي الزموا أنفسكم ، أي احرصوا على أنفسكم . والمقام يبيّن المحروص عليه ، وهو ملازمة الاهتداء بقرينة قوله : { إذا اهتديتم } ، وهو يشعر بالإعراض عن الغير وقد بيّنه بقوله : { لاَ يضرّكم من ضلّ } .
  • 4. فجملة { لا يضرّكم من ضلّ } تتنزّل من التي قبلها منزلة البيان فلذلك فصلت ، لأنّ أمرهم بملازمة أنفسهم مقصود منه دفع ما اعتراهم من الغمّ والأسف على عدم قبول الضالّين للاهتداء ، وخشية أن يكون ذلك لتقصير في دعوتهم ، فقيل لهم : عليكم أنفسكم ، أي اشتغلوا بإكمال اهتدائكم .
  • 5. وقوله : { إذا اهتديتم } ظرف يتضمّن معنى الشرط يتعلّق ب { يضرّكم } . وقد شمل الاهتداء جميع ما أمرهم به الله تعالى . ومن جملة ذلك دعوة الناس إلى الخير و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلو قصروا في الدعوة إلى الخير والاحتجاج له وسكتوا عن المنكر لضرّهم من ضلّ لأنّ إثم ضلاله محمول عليهم .
  • 6. فلا يتوهّم من هذه الآية أنّها رخصة للمسلمين في ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأنّ جميع ذلك واجب بأدلّة طفحت بها الشريعة . فكان ذلك داخلاً في شرط { إذا اهتديتم } .
  • 7. ولما في قوله { عليكم أنفسكم } من الإشعار بالإعراض عن فريق آخر وهو المبيّين بِ { من ضلّ } ، ولما في قوله { إذا اهتديتم } من خفاء تفاريع أنواع الاهتداء؛ عرض لبعض الناس قديماً في هذه الآية فشكّوا في أن يكون مُفادها الترخيص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
  • 8. وقد حدث ذلك الظنّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أخرج الترمذي عن أبي أمية الشعباني أنّه قال : سألت عنها أبا ثعلبة الخشني ، فقال لي : سألتَ عنها خبيراً ، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " بل ائتمروا بالمعروف وتناهَوا عن المنكر حتّى إذا رأيت شحّاً مُطَاعَاً وهوى مُتَّبعاً وَدنْيَا مُؤثرَة وإعجابَ كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصّة نفسك ودَعَ العوّام "
  • 9. وَحَدَثَ في زَمَن أبي بكر : أخرَجَ أصحابُ « السنن » أنّ أبا بكر الصديق بلغه أنّ بعض الناس تأوّل الآية بسقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : { يأيّها الناس إنّكم تَقْرَأونَ هذه الآية يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم } وإنّكم تضعونها على غير موضعها وإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنّ الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيّرونه يوشك الله أن يعمّهم بعقابه ، وإنّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعذاب من عنده .
  • 10. وعن ابن مسعود أنّه قرئت عنده هذه الآية فقال : إنّ هذا ليس بزمانها إنّها اليوم مقبولة ( أي النصيحة ) ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يُقبل منكم فحينئذٍ عليكم أنفسكم ( يريد أن لا يجب عليهم قتال لتقبل نصيحتهم ) . وعنه أيضاً : إذا اختلفت القلوب وألبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فامرُؤ ونفسه .
  • 11. وعن عبد الله بن عمر أنه قال : إنّها ( أي هذه الآية ) ليست لي ولا لأصحابي لأنّ رسول الله قال : " ألا ليبلّغ الشاهد الغائب " فكنّا نحن الشهود وأنتم الغيّب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيؤون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم .
  • 12. فماصْدقُ هذه الآية هو مَاصْدقُ قول النبي صلى الله عليه وسلم في تغيير المنكر : " من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " فإنّ معنى الاستطاعة التمكّن من التغيير دون ضُرّ يلحقه أو يلحق عموم الناس كالفتنة . فالآية تفيد الإعراض عن ذلك إذا تحقّق عدم الجدوى بعد الشروع في ذلك ، ويلحق بذلك إذا ظهرت المكابرة وعدم الانتصاح كما دلّ عليه حديث أبي ثعلبة الخشني ، وكذلك إذا خيف حصول الضرّ للداعي بدون جدوى ، كما دلّ عليه كلام ابن مسعود المذكور آنفاً .
  • 13. وقوله : { إلى الله مرجعكم جميعاً } عذر للمهتدي ونذارة للضالّ . وقدّم المجرور للاهتمام بمتعلّق هذا الرجوع وإلقاء المهابة في نفوس السامعين ، وأكّد ضمير المخاطبين بقوله : { جميعاً } للتنصيص على العموم وأن ليس الكلام على التغليب . والمراد بالإنباء بما كانوا يعملون الكناية عن إظهار أثر ذلك من الثواب للمهتدي الداعي إلى الخير ، والعذاب للضالّ المعرض عن الدعوة .
  • 14. الإمام الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله