SlideShare a Scribd company logo
1 of 13
‫العقل ال س ّليم في الجسم السليم..‬
                                                        ‫دعوة للمصارعة‬


    ‫ي ُقال للمواطن الليبي أن مشاكل مجتمعنا تندرج تحت ثلث خانات . خانة‬
   ‫للفقر وخانة للمرض وخانة للجهل ، و ي ُقال له أيضا أنك ما دمت قد عرفت‬
   ‫مشاكلك إلى هذا الحد وعرفت مخبأها السري فلم تعد ثمة ما تحتاج إليه‬
                                 ‫سوى أن تضع لها قليل من سم الفئران .‬


  ‫أنا هنا ل أريد أن أقول للمواطن الليبي أن لعبة الخانات الثلث قد ل تعني‬
   ‫شيئا في الواقع سوى أننا ل نعرف مشاكلنا ، أعني لقد حدث ذلك من قبل‬
  ‫في حكاية العميان الذين جمعهم المهراجا في غرفة واحدة لكي يتعرفوا‬
       ‫على فيله ، فتعرفوا على ك ل ّ شيء فيه إل أنه فيل . وإذا كان النقاش‬
    ‫العاجي لم يستطع قط أن يضمن إقناع مواطننا بأية حقائق جديدة فإنه‬
      ‫أيضا لن يزيد اقتناعه بأخطائه الحالية . إن المغامرة خالية من الخطر‬
                                                                  ‫تقريبا .‬

                             ‫المشكلة تبدأ – كالعادة – من كلمة ) الجهل ( .‬

     ‫فالموطن عندنا ل يسيء فهم هذه الكلمة المعقدة فحسب بل إنه في‬
      ‫الواقع لم يفهمها قط في أي يوم من اليام ، لقد دخل الصطلح إلى‬
 ‫قاموسنا المعاصر بمثابة ترجمة لكلمة ) الم ي ّة ( في لغات أخرى ورسخ في‬
 ‫ذهن مواطننا بهذا المعنى الضيق وحده حتى أنه لم يعد يرى ثمة ما يدعوه‬
                                               ‫إلى مراجعة هذا الخطأ .‬

     ‫لكن الجهل ليس هو المية.. هذه بديهية غير مفاجئة جدا في الدراسات‬
   ‫المعاصرة ، إنه ل يتمثل في المية إل بقدر ما يتمثل مرض السل في قليل‬
    ‫من السعال ، وإذا قيل لك أن المرء قد يسعل للف سبب آخر غير إصابته‬
  ‫بالسل ، فسوف ترى أن تشخيصك للمرض يبدو ساذجا إلى حد ل يليق بك..‬

 ‫إن المنهج الحديث في دراسة المشكلة يسلك طريقا مختلفا ويوصي بتخطي‬
‫لعبة الخانات الغامضة ليجاد زاوية الرؤية الصحيحة من مكان آخر ، والرؤية‬
                                     ‫الصحيحة بسيطة إلى حد ل يصدق !‬

        ‫إن الجهل ليس وحشا مختلفا عن الفقر أو المرض بل انه في الواقع‬
‫) الترجمة الوحيدة الممكنة ( لمعنى هاتين الكلمتين معا . كل ما في المر أن‬
                                               ‫الجهل ) فقر من الداخل ( .‬

     ‫وإذا اتفقنا هنا على أن ) الفقر ( ل ينتهي بمجرد حصولك على كيس من‬
‫أوراق العملة ، بل ينتهي فقط إذا كانت أوراق العملة مقبولة في السوق‬
   ‫وإذا اتفقنا على أن ) الثراء ( ل يقاس بما يملكه المرء بل بقيمة ما يملكه‬
                                                                  ‫المرء..‬

‫وإذا كنت ل تحب العناد لوجه ا فسوف ترى بنفسك أن الجهل أيضا ل ينتهي‬
‫بمجرد قدرتك على القراءة في كتب المعرفة بل ينتهي فقط إذا عرفت حقا ،‬
                       ‫سواء عن طريق القراءة أو عن طريق المعايشة .‬

     ‫والمشكلة بالضبط أن كل مخلوق يعتقد حازما أنه ) يعرف ( . أعني هذه‬
   ‫طبيعة النكتة المريعة . فالجهل ل يملك سوى علج واحد اسمع المعرفة ،‬
             ‫ولكن العارفين في أغلب الحيان هم بالذات السادة الجهلء .‬

‫لقد قرر المام الغزالي هذه الحقيقة بصورة أفضل عندما قال منذ ألف عام‬
 ‫) ما قارعت عالما إل غلبته وما قارعت جاه ل ً إل غلبني ( لكن الظاهرة غير‬
     ‫المعقولة قادت في نهاية المطاف إلى إيجاد التفسير الصحيح لمشكلة‬
                                                        ‫الجهل بأسرها .‬

  ‫حدث ذلك بعد أن بدأت الدراسات المعاصرة تشير باطراد إلى أن أمراض‬
‫الجهل – التي تدعى عادة باسم التخلف الحضاري – ل تختلف في الواقع عن‬
     ‫أية أمراض ) عقلية ( أخرى بل إنها في الغالب ل تقل عنها ضررا أيضا .‬
  ‫فالجهل حالة غيبوبة تشبه إلى حد بعيد حالة الخدر الجزئي التي يعايشها‬
  ‫المرء عندما يقع تحت طائلة العقار . إنها ل تبدو له غير طبيعية أو خاطئة‬
                               ‫ولكنها تبدو كذلك لمن يراقبه من النافذة .‬

‫هذا الفرض الشجاع أدى في نهاية المطاف إلى اعتبار الجهل مرضا عاديا ل‬
   ‫يختلف كثيرا – ول يقل أيضا – عن معظم أمراض سوء التغذية ، انه نتيجة‬
‫عادية لما يناله المواطن في بيئته ، ليس من حيث كمية الطعام فقط بل من‬
                                           ‫حيث قيمته الغذائية بالذات .‬

‫وهنا بدأت سلسلة مشوقة من المفاجآت ، فقد استغرق العلماء وقتا قصيرا‬
  ‫جدا قبل أن يتضح لهم أن تفسيرهم لمشكلة الجهل باعتبارها مرضا عاديا‬
‫لم يكن التفسير الصحيح فحسب بل كان أيضا التفسير الصحيح الوحيد الذي‬
      ‫يستطيع أن يشرح سلوك المصاب وثقته في جهله وإصراره على ادعاء‬
                ‫المعرفة وتعلقه بحلوله المريضة إلى آخر رمق من حياته .‬

         ‫إن ) المصاب ( ل يستطيع أن يفعل شيئا آخر لخمسة أسباب كاملة :‬

   ‫السبب الول أن الجهل – مثل جميع المراض العقلية – مرض ل يستطيع‬
   ‫المصاب أن يحدس أنه مصاب به إل بقدر ما يحدس النائم أنه نائم حقا .‬
‫السبب الثاني أن الجهل – مثل جميع المراض العقلية أيضا – منطق ذاتي‬
  ‫يأتي من الداخل عن اقتناع كامل ويوفر بذلك حالة من ) السلم النفسي (‬
‫التي ل تبدو مزيفة إل لمن ينظر إليها من الخارج ، لذا فإن عناد الجاهل ليس‬
    ‫شيئا في الواقع سوى نوع من الدفاع عن ) سلمة النفس ( إنه ل يرفض‬
‫حقائقك لنه يكره الحق لحساب الشيطان بل لنه ل يستطيع أن يترك عالمه‬
     ‫ينهار فوق رأسه لحساب حقائقك ، إن ذلك يبدو بالنسبة له مجرد دعوة‬
                                                    ‫للمشي في جنازته .‬

       ‫السبب الثالث أن الجهل – مثل جميع المراض العقلية – ل يسبب ألما‬
‫للمصاب نفسه بقدر ما يسبب آلما كثيرة لمن يحبونه أو يحيطون به . لذا فإن‬
‫إقناع ) المريض ( بالبحث عن علج ما يبدو دائما عم ل ً صعبا للغاية إن لم يكن‬
     ‫مستحي ل ً . إنه ل يحس بحاجته إلى علج من أي نوع ما دام أص ل ً ل يحس‬
‫باللم ، لكن المشكلة لم تبق قط بدون حل . لقد تكفلت الكوارث الجتماعية‬
  ‫دائما بفرض العلج على المريض إذا التزم جانب العناد أطول مما ينبغي .‬

  ‫السبب الرابع أن الجهل – مثل جميع المراض العقلية – يحقق رابطة متينة‬
‫بين الفئات المصابة به بغض النظر عن اختلفاتها الجتماعية ويرصها جميعا‬
      ‫صفا واحدا ضد العداء وراء الجدار ، في حالة استعداد دائمة للبدء في‬
 ‫القتال . فإذا كانت الفئات صغيرة الحجم مثل الحزب النازي في بداية نشأته‬
  ‫فإنها غالبا ل تستطيع أن تلحق ضررا ملموسا بمن يحيط بها وإذا أتيحت لها‬
 ‫فرصة النمو مثل الحزب النازي أيضا بحيث صار في وسعها أن تضم القطاع‬
 ‫العظم من القوة الكلية فإنها تثبت أقدامها في الرض وتنمو بل حساب في‬
    ‫تربة غنية من القطاع الفكري السود ويصبح دمارها أمرا مستحي ل ً بدون‬
‫وقوع الكارثة الجتماعية . ولكن الدمار لبد منه في نهاية المطاف . لقد أدى‬
    ‫هذا القطاع الفكري ذات مرة إلى صلب المسيح بأيدي اليهود ، وأدى في‬
 ‫مرة أخرى إلى وضع ادولف هتلر في مصاف المنقذين الكبار غير أن نتائجه‬
  ‫كانت دائما خاطئة وكان التاريخ يصحح له هذه الخطاء بقلم مغموس في‬
                                                                  ‫الدم .‬

  ‫السبب الخامس أن الجهل – مثل جميع المراض العقلية – ل يمكن علجه‬
 ‫من الخارج تحت أية ظروف ، لن أول مشاكل المريض أنه ل يعترف بوجود‬
       ‫شيء مجد في الخارج . فالمرء يذهب إلى طبيب السنان عندما يؤلمه‬
‫ضرسه لنه يؤمن مقدما بأن ذلك الطبيب يعرف أكثر منه فيما يخص السنان‬
‫وأنه يستطيع أن يحرره من الوجع عن طريق استعمال ) الوصفة الصحيحة (‬
    ‫لكن اللعبة مختلفة كليا بالنسبة للمواطن الذي ل يؤلمه ضرسه بل يؤلمه‬
  ‫عقله الخرافي وحده ، إنه في الدرجة الولى ل يحس بالوجع وفي الدرجة‬
‫الثانية ل يرى ثمة حاجة إلى أن يزور معلم الجغرافيا لكي يثبت له أن الرض‬
    ‫كروية مادام يعرف أنها ليست كروية على أي حال بل مسطحة ومحمولة‬
     ‫على قرن ثور ، إن المشكلة هنا تخص نوع المعرفة غير العملية التي ل‬
  ‫يستطيع المصاب أن يعترف لنفسه بأنه يحتاج إليها ، فالمرء ل يسقط على‬
‫رأسه في الفضاء إذا أصر على العتقاد بأن الرض طبق يحمله الثور إلى‬
   ‫الكوشة . ومادام المرء ل يسقط على رأسه ، بل يمشي مثلك على قدميه‬
 ‫الجاهلتين فمن الصعب أن يخطر له ذات مرة أن ) يصحح ( معلوماته لمجرد‬
     ‫الرغبة في) المعرفة المجردة ( لذاتها إنه مرتبط عقليا بالنتائج العملية‬
 ‫للمعرفة ، وليس مما يجديك نفعا أن تحاول إقناعه بأن قبول كروية الرض‬
                     ‫سوف يساعده على إحراز نتائج عملية أكثر مما ينتظر .‬

       ‫فالمشكلة بالنسبة له تقف دائما عند هذا السؤال البسيط : ما دمنا‬
‫مستريحين على الرض ، ومادامت نظرية الطبق والثور ل تجعلنا نسقط على‬
      ‫رؤوسنا في الفضاء فما الذي يدعوك إلى تشويش أفكارنا بالوهام‬
                                                            ‫النظرية ؟‬

‫إذ ذاك عليك أن تلتزم الصمت أو تخنقه بأصابعك أو تذهب إلى القمر وترسل‬
 ‫له صورة أمه الرض خالية من صورة والده الثور . إن العلم ل يعرف علجا‬
                                                     ‫آخر حتى الن .‬

     ‫هذه التحديدات الخمسة لم تؤد بالطبع إلى القضاء على الجهل في أي‬
    ‫مكان ولكنها أدت إلى فهمه فهما مرضيا وتشخيصه باعتباره مرضا عاديا‬
‫يأتي من البيئة المحيطة بالفرد كما تأتي بقية المراض ، ويمكن مقارنته في‬
‫يسر بأمراض سوء التغذية التي تنجم عن نقص في قيمة الغذاء وكميته معا‬
   ‫، لكن الفرق الحاسم بين المواطن المصاب ) بنقص المعرفة ( والمواطن‬
   ‫المصاب ) بنقص التغذية ( أن أحدهما يسعل طوال الليل ويعاني من فقر‬
    ‫الدم والسل ، والخر يركض مثل الحصان ويحمل عصاه معه لكي يكسر‬
     ‫رأسك إذا قررت أن تلعب معه دور الطبيب ، إنه المصارع السخيف الذي‬
  ‫خدعنا منذ ألف عام بدعايته المغرضة عندما أقنعنا بأن العقل السليم في‬
  ‫الجسم السليم . فالواقع أنه لو صدقنا هذه الخرافة لطالبنا غدا بأن يوضع‬
  ‫مصير العالم في أيدي الحمالين.. لكننا ل نصدقها لحسن الحظ لننا نعرف‬
   ‫أن الجسم السليم مجرد نتيجة مرضية واحدة من ألف نتيجة أخرى للعقل‬
   ‫السليم ولن ) المصارعة ( في العالم ليست مجرد مباراة مسلية بين رجل‬
 ‫سمين ورجل سمين آخر بل سباقا مرهقا بين العقول الواعية القادرة على‬
                                                       ‫احتمال الصراع .‬

‫وأسوأ ما في المر أنه سباق خال من الروح الرياضية وأن المنتصر ل يكتفي‬
   ‫بإلقاء خصمه على الرض بل يفضل دائما أن يسلخ فروة رأسه ويسرق‬
  ‫امرأته ويمحو أثره بالممحاة . إنه صراع البقاء الذي يعتقد معظم الناس‬
‫أنهم يعرفون عنه ك ل ّ شيء ، وهم يجهلون في الغالب أبسط أسلحته . ذلك‬
    ‫الخطأ المميت الذي يرتكبه الجاهل مرتين إذا لم يفقد رأسه في المرة‬
                                                             ‫الولى .‬

                                                           ‫صادق النيهوم‬
‫2‬

                                                    ‫الجهل مثل المعرفة..‬
                                                   ‫قابل للزيادة بل حدود‬

  ‫[ الدراسة التي أدت إلى تفهم ظاهرة ) الجهل ( باعتبارها حالة عقلية معينة‬
       ‫تشبه ظاهرة المرض أدت أيضا إلى تسليط أضواء جديدة على شخصية‬
‫) الجاهل ( نفسه وشرح سلوكه المعقد وتفهم متاعبه الحقيقية الكامنة وراء‬
   ‫قناع الرضا . لكن المرء ل بد أن يلحظ هنا أن تشخيص المرض على هذا‬
‫النحو قد وضع كلمة ) الجهل ( في مكان مختلف كلية عن مكانها القديم . إنها‬
‫لم تعد تعني ) عكس المعرفة ( بل عكس الصحة العقلية ، والفرق هنا ليس‬
                                                ‫فرقا فوق السطح فقط .‬

‫[ فليس ثمة أحد في العالم سليم الجسم مائة في المائة ، هذه المعجزة لم‬
‫تحدث حتى الن وليس من المتوقع أن تحدث أيضا قبل مضي زمن طويل إن‬
‫المرء يملك دائما نصيبه من المتاعب الصحية ولكنه ل يدعو نفسه مريضا إل‬
‫إذا أقعدته متاعبه عن أداء شؤؤونه الحياتية الملحة . ذلك بالضبط المفهوم‬
                                              ‫المعاصر لمعنى الجهل .‬


   ‫فليس ثمة أحد في العالم يعرف الصواب عن كل شيء مائة في المائة ،‬
 ‫ذلك أيضا لم يحدث حتى الن وليس من المتوقع أن يحدث في المليون عام‬
‫القادم . ولكن المرء ل بد أن يعرف ) مقدارا ( معينا من الشياء الصائبة لكي‬
 ‫يتمكن من تدبير شؤون حياته اليومية ، وبمدى كفاية هذا المقدار وفعاليته‬
                ‫في مواجهة مشاكل حياتنا تقاس ظاهرة الجهل والمعرفة .‬

 ‫إننا ل نقاتل طواحين الهواء . ول نخلع اللقاب من باب العبث اللفظي لكي‬
  ‫ندعو مواطنا ما باسم الجاهل أو العالم وليس مما يجدينا أن نضيع وقتنا‬
                                                   ‫في حلب النجوم .‬

   ‫إننا نعيش هنا فوق الرض ، ونستمد منها قوت أطفالنا ونستمد منها أيضا‬
      ‫مقاييسنا للجهل والمعرفة على حد سواء ، الحياة وحدها هي مقياسنا‬
‫الصحيح ، فإذا كان بوسعك أن تفيدها وتجعلها أكثر بهجة فأنت تعرف ، وإذا‬
        ‫لم يكن بوسعك أن تفعل من أجلنا شيئا سوى أن تزيد متاعبنا وتشوه‬
‫طموحنا فأنت تجهل ذلك سواء كنت تحسن القراءة أو ل تحسنها ، سواء كنت‬
  ‫تلبس جبة درويش أو جلد نمر ، إن المظهر ل يخص مقاييسنا ولكنه أيضا ل‬
                                  ‫يستطيع أن يخدعها بمقدار ذرة واحدة .‬
‫هذا الخط الفاصل بين العارف وغير العارف وضع ظاهرة الجهل في مكانها‬
     ‫الصحيح وعراها من معظم أقنعتها الخادعة وأعطاها المفهوم الحقيقي‬
       ‫القادر على اكتشافها في كل مكان ، إن شعراء الزنوج يستعملون هذه‬
         ‫الصيغة في مخاطبة المريكيين البيض باعتبارهم قطيعا من الثيران‬
     ‫الجهنمية الجاهلة رغم أن نسبة التعليم بين البيض تقارب الحد النهائي ،‬
   ‫وكذلك استعملها ) رونبرج ( عندما قال عن متاعب بلده الحالية : السويد لم‬
    ‫ترفع نسبة التعليم إلى مائة في المائة ولكنها رفعت نسبة ق ر ّاء المجلت‬
      ‫الجنسية ، إن القدرة على القراءة لم تعد تعني القضاء على الجهل في‬
  ‫القاموس المعاصر ، ولعل المواطن الليبي سيحس بالسلم أكثر إذا قيل له‬
  ‫الن إن الدراسات المعاصرة لم تعد تعتبره أكثر جهل من المواطن الغربي‬
‫أو الشرقي إنما تضعهما معا تحت مسطرة واحدة تدعى بفهم ظاهرة الحياة‬
       ‫فهما صحيحا والمواطن القل معرفة هو الذي يبدو أقصر قامة بالنسبة‬
   ‫للمسطرة ، إن المقياس لم يعد لعبة مظاهر تخص تسريحة الشعر وطول‬
           ‫الميني وشكل أحمر الشفاه ولون العينين أو الوشمة أو الجربي أو‬
  ‫العمامة ، هذه اللعبة ماتت وسوف يموت اللعبون ، فالمقياس الن يخص‬
‫الجوهر وحده ، يخص قدرتك أن تجعل حياتك وحياة الخرين انتصارا شريفا‬
     ‫على الموت أو هزيمة مهينة أمامه في الجولة الولى ، إن الحياة ل تملك‬
                                                               ‫عدوا آخر .‬


                                 ‫لكن الجاهل يملك أعداء تحت كل حجر .‬
‫إنه يعاني من هذا الوهم لنه ل يعرف شكل عدوه الحقيقي ، ذلك يمكن أن‬
    ‫يحدث لك أيضا إذا اتصل بك أحد ما غدا وقال لك في الهاتف بلهجة ليبية‬
                                       ‫صميمة انه يزمع أن يكسر رأسك .‬

‫[ إن كل مواطن في المدينة سيصبح عدوك في غمضة وكل مواطن سيبدو لك‬
      ‫بمثاية قاتل مجنون يوجه إليك سكينه في الخفاء ، وسوف تعيش هذا‬
  ‫الكابوس حتى تعرف عدوك بالضبط أو تمزق قميصك الوحيد . إن الجاهل‬
                             ‫يعيش هذا الكابوس من المهد إلى اللحد .‬

   ‫ذلك يمكن أن يدعوك إلى الرثاء له ، فالمريض ليس مذنبا بل ضحية ولكن‬
   ‫مشكلة الجاهل أنه يبادر إلى كرهك بمجرد أن يكتشف أنك ترثي له لنذلك‬
 ‫بالضبط ما يعني لديه غاية الهانة ، هذه الشخصية المريضة ليست أسطورة‬
   ‫، وليست أيضا صناعة محلية في ليبيا وحدها أو في الدول النامية وحدها ،‬
‫إنها موجودة في كل مكان ، أعني في ليبيا وفي السويد أيضا بدرجة واحدة ،‬
       ‫وتتكلم كل اللغات وتلبس كل الزياء وتنط على كل الحبال لكنها ليست‬
      ‫خافية على مناهجنا المعاصرة ، إننا نعرف كل شيء عنها ونستطيع أن‬
    ‫نكتشفها بيسر سواء كانت ملفوفة في الجربي أو نصف عارية على رصيف‬
‫سان باول في هامبورج ونستطيع أيضا أن نضع إصبعنا فوقها – مهما اختارت‬
‫لنفسها مكانا عاليا – وننزع قناعها أمام المواطنين باعتبارها ) قنبلة زمنية قد‬
                         ‫ل تنفجر ولكنها على أي حال معدة للنفجار فقط ( .‬


  ‫نحن ل نفعل ذلك اعتمادا على الفراسة أو قراءة الفنجان بل اعتمادا على‬
‫مقاييس علمية أكثر دقة من المسطرة والجاهل ل يستطيع أن يخدع مقياسنا‬
     ‫إل بمقدار ما يستطيع رطل البصل أن يخدع الميزان ، إننا نعرفه بخمس‬
                                          ‫علمات تجارية مسجلة باسمه .‬

 ‫العلمة الولى أنه يغرف الصواب عن كل شيء ، والشياء الصغيرة التي ل‬
 ‫يعرف عنها الواب يعلقها في عنق إله الرعد ، ذلك من شأنه أن يدعوك إلى‬
 ‫أن تتذكر ) ساحر القرية ( في حضارات الزنوج ، أعني العجوز الجهنمي الذي‬
 ‫يزين رأسه بالقرون ويحل للزنوج البؤساء كل مشاكلهم بالرقص فإذا مرض‬
  ‫أحدهم بالحمى أعطاه بعض العشاب ، فإذا لم تشفه العشاب يركله في‬
      ‫ظهره ويخبره بأن ) إله الرعد النحاسي ( يريده أن يموت . إن الجاهل ل‬
      ‫يحتاج دائما إلى القرون ول يحتاج أيضا إلى أن يظهر فقط بهذا المظهر‬
  ‫الواضح ، إنه أحيانا يجلس في مكتبه ويكتب لك بقلمه الذهبي خطة كاملة‬
   ‫لحياتك أنت وحياة أطفالك ، ولكنه دائما يحمل العلمة التجارية المسجلة‬
    ‫باسمه ، إنه يعرف كل شيء بالتفصيل ، ويعرف يالذات ) الصواب وحده (‬
                                      ‫على القل بالنسبة لعقله المصاب .‬


‫العلمة الثانية أنه يقف دائما عند محور الرض والدنيا تدور حوله ، كل شيء‬
   ‫يتحرك بالنسبة له أو يقف بالنسبة له وحده ، لنه هو المركز الحقيقي . هو‬
   ‫) العالم ( كما ينبغي للعالم أن يكون ، إنه متسامح وشريف وعفيف وطاهر‬
   ‫الذيل مادام ذلك كله يستمد معناه من وجوده في مركز الرض ، إنه يموت‬
 ‫من أجل شرف امرأته لكنه أيضا يسطو على امرأة عدوه بضمير شبه نظيف .‬
      ‫والمرء ل يجوز أن يتوقع ظهور هذه الشخصية في مظهر واضح إلى هذا‬
        ‫الحد تحت كل الظروف ، إن اللعبة أكثر تعقيدا بالطبع ، فدرجة الصابة‬
        ‫بالمرض تتفاوت بين الناس كما تتفاوت بصمات أصابعهم لكن القاسم‬
     ‫المشترك النهائي أن ) الجاهل ( ل يستطيع أن يتنازل عن عرشه في مركز‬
   ‫العالم دون أن يفقد جهله ، لنه إذ ذاك يرى الحقيقة ويرى نسبية الشياء ،‬
                         ‫وإذا قدر للعمى أن يرى فإنه ل بد أن يفقد عماه .‬

 ‫العلمة الثالثة أن الحاهل ل يبيع بضاعته بالمنطق بل بالشعر وحده ، إنه ل‬
  ‫يقنعك بفكرته بل يغريك بها ، وإذا رفضت إغراءه يلجأ إلى ) تهديدك ( وإذا‬
      ‫رفضت تهديده انقطعت علقته بك عند هذا الحد ، إنه ل يجيد استعمال‬
  ‫الرباط الفكري ول يعرف كيف يحشر يده داخل دماغك لكي يقنعك بحجته‬
   ‫لن هذه المعجزة ل تتم بدون ) القناع المنطقي ( ولن القناع المنطقي‬
‫آخر بضاعة في حانوته المعبأ بالشعار . إن الناس يقيسون المسافات بينهم‬
‫عادة بالميال أعني بمقدار بعد أحدهما عن الخر ، ولكن هذا المقياس في‬
    ‫الواقع رديء إلى حد ل يحتمل ، إن المسافات بين البشر ل بد أن تقاس‬
   ‫أحيانا بالسنين الضوئية . فالمشكلة ل تخص الفضاء الخارجي بال اللقاء‬
‫العقلي وحده ، إنك تجلس أحيانا بجانب جارك وتحس أنك بعيد عنه بمسيرة‬
   ‫ألف عام ، وتتعرف أحيانا على صديق بعيد وتحمله معك في صدرك ، لن‬
      ‫المسافة ل وجود لها داخل هذه البعاد العقلية ، إن عالم النسان غير‬
  ‫خاضع لقيود المادة ، ولكن مشكلة ) الجاهل ( أنه ل يعرف طريقا يصل به‬
‫إلى عقلك سوى أن يشدك من ذيلك ، أعني أن يستميل مشاعرك بالغراء أو‬
       ‫يشلها بالخوف . فإذا أثب ت َ له أنك ل تملك ذي ل ً وأنه ل يستطيع أن يعبر‬
‫أبعادك العقلية بحماره العرج ، فإنه عادة ينفض يديه منك بأن يقطع رأسك‬
      ‫أو يكرهك في الخفاء . إن الجاهل ل يستطيع أن يسلك طريق النقاش‬
‫المنطقي دون أن يفقد جهله ، أعني يموت جائعا ويمشي في جنازته ويتقبل‬
                                                              ‫تهاني المعزين .‬

 ‫العلمة الرابعة أن الجاهل مثل ساعة مليئة بالوساخ – تشير عقاربها عادة‬
      ‫إلى منتصف الليل فيما يتناول الناس إفطارهم في الصباح – إنه يعيش‬
       ‫متأخرا بضع سنوات وأحيانا أيضا بضعة قرون دون أن يهمه بالطبع أن‬
        ‫العالم من حوله ل يتحرك طبقا لتوقيته الرديء ، إنه شبح من مذبحة‬
      ‫الماضي وراء قناع مواطن معاصر . جزيرة تائهة أو قارة بأسرها تائهة‬
     ‫تتسكع في عصر منقرض وتراقب عصرنا بازدراء مستعدة لن تعلق في‬
  ‫عنقه أية تهمة تخطر ببالها بمجرد أن يتجرأ على إبداء شخصيته المختلفة ،‬
                                      ‫إن الجاهل حارس مقبرة غير مرئية .‬

   ‫يحصل على ) ثروته ( الفكرية بطريق الميراث ، ويضع كرسيه عند ناصية‬
   ‫الزقاق ويحرس ) أملكه ( سواء كانت بيتا واحدا أو عشرة بيوت أو عشر‬
      ‫وصايا ، ويدق عنقك بعصاه الخيزران إذا رأى فيك ثمة ما يهدد ثروته‬
‫بالضياع ، ويتهمك طبعا بأية تهمة تخطر في رأسه العجيب من فساد الخلق‬
                                               ‫والتفسخ إلى قلة الحياء .‬

     ‫مقياسه الوحيد ليجاد الخطأ من الصواب أن الصواب هو ما فعله جده‬
 ‫والخطأ هو ما يفعله أبناء جيله وأسوأ ما في المر أن مقياسه الرديء ليس‬
  ‫رديئا فحسب بل انه عادة نصف ) مجيد ( إنك ل تستطيع أن ترفض مقاييس‬
     ‫الرجل الجاهل دون أن يتهمك بالخروج عن التقاليد الحميدة والعادات‬
           ‫المجيدة لن هذه العقوبة بالضبط هي سلحه العقلي الوحيد .‬

    ‫العلمة الخامسة أن الجاهل رجل مريض وليس رج ل ً يتظاهر بالمرض ،‬
    ‫ذلك يعني أنه ليس ممث ل ً يفضل أن يؤدي أمامك دورا ما كما يحدث عادة‬
      ‫بالنسبة للمراهقين . فالتلميذ المراهق قد يسبب لك كثيرا من المتاعب‬
  ‫لمجرد رغبته البريئة في أداء دور ) الفتوة ( أو اللص الظريف ولكن متاعبه‬
‫كلها مجرد لعبة خالية كاية من صفات القتناع المنطقي ، أما بالنسبة للرجل‬
‫الجاهل فإن ) الدور ( حقيقي وجاد إلى حد ل يطاق ، إنه مقتنع بفكرته أيضا‬
 ‫اقتناعا داخليا ل تردد فيه ، وليس بوسعك ، أو بوسع أية سلطة عقلية أخرى‬
   ‫أن تزجره كما تزجر الطفل أو تقرص له أذنيه ، إن عليك أن تعامله بمثابة‬
‫مخلوق عاقل مريض ، وعليك أن تتصرف بثبات إذا اكتشفت في لحظة ما أنه‬
     ‫بدوره يعاملك أيضا باعتبارك ) مواطن مسكين يستحق الهداية ( فاللعبة‬
 ‫نسبية حقا في نهاية المطاف ، والمرء لبد أن يفهم بطريقة ما أن السم قد‬
              ‫يبدو بضاعة غير مرغوب فيها لكنه ليس كذلك بالنسبة للعقرب .‬

‫هذه علماته الواضحة ، هذه آثار أقدامه الجاهلة على كل دروب العالم ، إن‬
  ‫الجاهل لم يعد سرا خاصا لتركيبة ما ، ولك يعد بوسعه أن يدس رأسه في‬
    ‫الزحام أو يختفي وراء قناع القراءة والفصاحة والشطارة اللفظية ، إنك‬
‫تستطيع أن تحشره تحت هذه المسطرة وتحدد له بالضبط ) طول ( جهله في‬
  ‫أي وقت ، فالمقياس واضح إلى حد كاف ، ثم إنه مرن وقادر على أن يضع‬
                                         ‫كل مخلوق في مكانه الصحيح .‬

   ‫ومادام بوسعنا أن نقيس المشكلة بالنسبة للفرد ، فإننا نحتاج إلى خطوة‬
                        ‫صغيرة واحدة لكي نقيسها أيضا بالنسبة للمليون .‬

                                                              ‫صادق النيهوم .‬

                                                                         ‫يتبع..‬



                                                                            ‫3‬
                                               ‫الضعيف يموت.. أو يربي شن ب ًا..‬


   ‫الصورة التي تم تحديد أبعادها هنا بالنسبة لشخصية المواطن الجاهل ل‬
   ‫ينقصها شيء من ملمح ) المجتمع ( الجاهل بأسره ، إن المجموع بالطبع‬
     ‫هو دائ م ًا حاصل جمع الجزاء والمرء يستطيع بيسر أن يرسم في ذهنه‬
   ‫صورة تطابق الصل لقطيع من الحصنة البرية مادام يعرف شكل حصان‬
             ‫بري واحد ، لكن عملية الجمع تحتاج إلى مهارة عقلية خاصة .‬

        ‫فالطفل يتعلم في حصة الحساب أن تفاحة زائد تفاحة لبد أن تساوي‬
       ‫تفاحتين ، لكنه غال ب ًا يحتاج إلى سنوات طويلة من ممارسة الواقع لكي‬
 ‫يتعلم أن مائة طوبة زائد مائة طوبة ل تساوي مائتين بل تساوي بي ت ًا جاه ز ًا‬
 ‫للسكن ، إننا ل نجمع الشياء لكي نكومها عب ث ًا في كوم واحد بل لكي نؤدي‬
  ‫بها غر ض ًا حيات ي ًا خا ص ًا ، ومن الخطأ أن نتصور بعد ذلك أن الحياة نفسها ل‬
‫تفهم مثلنا في تأدية الغراض .‬

   ‫إن عمليات الجمع البسيطة ل تحدث في غير مدارسنا الكثر بساطة أما ما‬
  ‫يجري في الواقع فإنه عادة يتجاوز حد الجمع إلى إيجاد ) حالة المجموع (‬
       ‫نفسها ، ذلك يعني أننا ل نحصي قطرات المطر فوق قميصك ول يهمنا‬
‫عددها أي ض ًا بل يهمنا فقط أن قميصك مبلول ، وإذا بذلت محاولة أمينة لفهم‬
         ‫هذا المثال في شكله البسيط فسوف تفهم أي ض ًا ما تعنيه الدراسات‬
          ‫المعاصرة عندما تصر على أن ) المجتمع الجاهل ( ليس قطي ع ًا من‬
   ‫المواطنين الجهلء بل ) مخاو ط ًا معق د ًا ( لحالت عقلية متبانية تتجمع عند‬
                                  ‫مستويات مختلفة لتصنع شك ل ً نهائ ي ًا واح د ًا .‬

 ‫إن النقطة الهامة التي أشير إليها هنا للمرة الثانية تتمثل في اعتبار الجهل‬
     ‫نقي ض ًا ) للصحة العقلية ( وليس للمعرفة ، فالجاهل ليس دما غ ًا أبيض‬
‫ممسو ح ًا ل يضم في داخله سوى الفراغ بل دماغ مليء حتى حافته بأشكال‬
 ‫خاصة من المعارف الخاطئة التي ل تختلف في طبيعتها النهائية عن طبيعة‬
   ‫المرض الجسماني نفسه ، أي غير ذات فائدة بالنسبة لحياتنا ، وإذا كانت‬
   ‫هذه الفكرة تبدو غامضة بطريقة ما ، فأنا أستطيع أن ألفت نظركم إلى‬
                                                       ‫مثال أكثر وضو ح ًا..‬

 ‫إن الجسد المريض ل يعني قط أن ) كل خلية ( فيه مصابة بالمرض بل يعني‬
     ‫دائ م ًا أن عد د ًا كاف ي ًا من خلياه قد تعرضت للصابة ، والخلية المريضة‬
    ‫نفسها ل تعني بدورها أنها ) خلية عاطلة ( بل تعني في الواقع أنها خلية‬
‫نشطة في التجاه الخاطئ . ذلك بالضبط ما يحدث في تفهم مشكلة الجهل .‬

     ‫فالمجتمع الجاهل ل يحتاج إلى أن يضم المواطنين الجهلء فقط ولكنه‬
      ‫يحتاج إلى أن يضم منهم عد د ًا كاف ي ًا لكي يتعرض للمرض ، والمواطن‬
  ‫الجاهل ل يعني أنه ) المواطن غير الفعال ( بل يعني المواطن الفعال في‬
‫التجاه الخاطئ كما تنشط خلية السرطان في تحقيق مزيد من المرض ، إن‬
‫الصحة العقلية هي المقياس الوحيد المعتمد في تقدير هذه المشكلة ، كما‬
 ‫أن الصحة الجسدية هي المقياس الوحيد المعتمد في تقدير مدى المرض ،‬
          ‫فالطبيب ل يستطيع أن يعتبرك مري ض ًا حتى تشلك حالتك الصحية عن‬
‫ممارسة نشاطك المطلوب ، والدارس المعاصر ل يعتبرك جاه ل ً أي ض ًا إل إذا‬
        ‫اكتشف أن مستوياتك العقلية عاجزة عن مساعدتك في ممارسة ذلك‬
                                                               ‫النشاط .‬

   ‫إن تعريف الجهل باعتباره نقي ض ًا للمعرفة موضة قديمة انتهى أمرها كما‬
  ‫انتهى أمر ) النطاسين ( الذين تعودوا أن يعتبروا المرض علمة على غضب‬
       ‫إله الرعد ، فالواقع أن كلمة المعرفة ليست فقط أسطورة رديئة مثل‬
‫أسطورة إله الرعد نفسه ، بل أي ض ًا إنها لعبة خادعة تشدك بعي د ًا عن التجاه‬
                                                                   ‫الصحيح .‬
‫فليس ثمة شيء مجرد اسمه المعرفة كما أنه ليس ثمة شيء مجرد اسمه‬
      ‫الصحة ، إن كل ما نملكه في عالمنا حالت متباينة لنواع من المعرفة‬
    ‫وأنواع من الصحة التي نقيسها دائ م ًا بمقياس واحد اسمه الحياة الكثر‬
   ‫فعالية أو الحياة القل فعالية ، ونحن ننطلق من هذه النقطة وحدها في‬
       ‫تعرية شخصية المواطن الجاهل ، وننطلق منها أي ض ًا في تفهم شكل‬
 ‫مجتمعه موقنين بثقة من أن الظاهرة – مثل ظاهرة الرعد بالضبط – ليست‬
‫مستعصية على الفهم إلى حد يتطلب البحث عن أسطورة إله الرعد النحاسي‬
                              ‫، إننا نعرف طري ق ًا أقرب للوصول إلى الحل .‬

  ‫هذا الطريق يبدأ في الواقع بمثابة حكاية نصف مشوقة ، إنه يدعو إلى أن‬
      ‫تتصور سفينة تبحر في وسط المحيط وتضم شع ب ًا كام ل ً بمثابة بحارة‬
  ‫ويدعوك إلى أن تتابع أحداث الرحلة عن كثب ملتز م ًا جانب الحياد ، إن أي‬
             ‫مراقب مثلك سيرى تفاصيل الموقف في خمس نقاط محددة :‬

 ‫النقطة الولى أن السفينة قد تطفو فوق الماء بموجب قانون طبيعي لكنها‬
‫تبحر في اتجاه الشرق أو الغرب بموجب إرادة البحارة ، ذلك يعني أننا قد ل‬
    ‫نملك فرصة في خلق حياتنا لكننا نملك كل شيء فيما يخص قيادتها وإذا‬
     ‫خطر لنا أن ندير دفتها في اتجاه الرف المرجاني فإننا غال ب ًا نستطيع أن‬
                                                      ‫نغرقها ونغرق معها .‬

‫النقطة الثانية أن السفينة لن تبحر في التجاه القرب إلى الهدف بل ستبحر‬
  ‫في التجاه الذي يعتقد البحارة أنه أقرب إلى الهدف ، وإذا كان البحارة –‬
  ‫مثل كولمبس مث ل ً – ل يعرفون خطة السير بالضبط فإنهم عادة يخسرون‬
                                  ‫كثي ر ًا من وقتهم في الدوران والنحناء .‬

   ‫النقطة الثالثة أن سرعة السفينة لن تبدو عالية أو بطيئة إل بالنسبة لمن‬
     ‫يراقبها من الخارج واض ع ًا في ذهنه مسافة الطريق والمعدل المطلوب‬
  ‫للسرعة ، أما بالنسبة لهل المركب الذين ل يملكون نفس المعلومات فإن‬
  ‫المشكلة بأسرها ل داعي لها ، إن المركب تسير ، وتسير أي ض ًا في التجاه‬
    ‫المتفق عليه وكل شبر تتركه ورائها يعتبر ) تقد م ًا ( ذلك كل ما في المر .‬

 ‫النقطة الرابعة أن قدرة السفينة على مواجهة متاعب الرحلة ل تتوقف فقط‬
       ‫على متانة بنائها بل أي ض ًا على نوع الحلول التي يختارها البحارة . إن‬
  ‫مجموعة من الرجال عديمي المعرفة بسلوك البحر يستطيعون أن يتسيبوا‬
                     ‫في إغراق مركبهم أكثر مما يتسبب في إغراقه طوربيد .‬

    ‫النقطة الخامسة أن جهة الوصول ل تعني بالضرورة أنها الهدف النهائي‬
 ‫الذي ل تستطيع السفينة أن تصل إلى هدف سواه بل تعني فقط أنها الجهة‬
                ‫التي يعتقد البحارة لسبب أو لخر أنها تكفي بالنسبة لهم .‬
‫هذا المثال البسيط مجرد شكل مصغر لما يحدث في الواقع على مستوى‬
     ‫المجتمع القوي أو المجتمع النساني بأسره ، إن عالمنا حصيلة مجموع‬
      ‫أفراده ، ومعارفنا حصيلة مجموع معارف الفراد ، ومركبنا يسير طب ق ًا‬
   ‫لخطتنا المتفق عليها ، والرحلة تبدو مضنية أو مبهجة طب ق ًا لطبيعة خطتنا‬
   ‫قبل أي شيء آخر ، لذا فإنها عادة ل تبدو مضنية أو مبهجة بالنسبة لنا بل‬
                                           ‫بالنسبة لمن يراقبها في الخارج .‬

      ‫إن التطبيق العملي لهذه الحكاية الصغيرة يبدو على أرضية الواقع أكثر‬
‫وضو ح ًا وقدرة على شرح مشاكلنا من الداخل ، فأنت ل بد أن ترى هنا انك ل‬
   ‫تستطيع اعتبار أية مشكلة نعانيها في مجتمعنا مجرد نتيجة حمقاء لسلوك‬
    ‫واحد منا لن ذلك الواحد بدوره مجرد نتيجة أخرى حمقاء ، إن المركب ل‬
    ‫تغرق لن بحا ر ًا واح د ًا يرغب في إغراقها بل لن بقية البحارة مستعدون‬
    ‫لقبول فكرته الخاطئة باعتبارها ) غاية في الصواب ( فإذا كان بوسعك أن‬
        ‫تلتزم جانب التواضع إلى هذا الحد وتعترف لنفسك بأن الفرد وحده ل‬
   ‫يستطيع في الواقع أن يحدث مشكلة أو يحل مشكلة دون وجود الستعداد‬
     ‫الطبيعي داخل الكتلة ، فسوف ترى في نهاية المطاف أن متاعب الجهل‬
   ‫التي تعانيها معظم الشعوب النامية ل تبدأ من الفراد الجهلء أو المثقفين‬
  ‫بل تبدأ بمستوى ) الصواب ( المعترف به داخل المجموعة ، إن القرآن ينعت‬
 ‫أهل مكة قبل السلم بالجهل ويدعوهم أي ض ًا باسم الجاهلية رغم أن نسبة‬
          ‫التعليم بينهم كانت تزيد عن نسبة التعليم في مجتمع المسلمين لن‬
      ‫المقياس ل علقة له بعدد العارفين وغير العارفين بل بنصيب المعرفة‬
 ‫نفسها من الحق والصواب ، ولن النبي المي كان دلي ل ً قائ م ًا بذاته على أن‬
        ‫المشكلة ل تخص القراءة والكتابة من بعيد أو قريب . المشكلة تخص‬
 ‫مستوى الصحة العقلية التي تتوقف بدورها على حالة الخليا ونوع أمراضها‬
‫ومدى إصابتها بالضبط ، والمرء يستطيع أن يبدي شكوكه في أية عملية جمع‬
‫عاجية لكن الدلة سوف تغليه دائ م ًا لكي يقتنع في نهاية المطاف بأن عملية‬
   ‫جمعنا البسيطة التي تقول إن مستوى الصحة العقلية في المجتمع حصيلة‬
‫مجموعة معارف الفراد نتيجة غير قابلة للطعن ، إن كل إناء ينضح بما فيه .‬

   ‫واللعبة بعد ذلك مريحة وخالية من الغموض ، إن المجتمع الجاهل ليس‬
 ‫فقط ، مجرد أفراد جاهلين بل مجموعة أفكار غير فعالة ومجموعة حقائق‬
   ‫نسبية قد ل تخلو من الزيف ، ومجموعة غير محدودة من الخطاء التي ل‬
    ‫تبدو بمثابة أخطاء إل لمن يراقبها من الخارج ، إنه صورة ) مكبرة ج د ًا (‬
                          ‫لرجل جاهل واحد يقود مركبه في وسط المحيط .‬
‫علماته التجارية هي نفس العلمات القديمة التي يلصقها الرجل على جميع‬
  ‫منتجاته ومشاكله بالطبع هي نفس المشاكل لكنها ) مكبرة ( بضعة مليين‬
                                                             ‫من المرات .‬

     ‫العلمة الولى أن المجتمع الجاهل أي ض ًا يعرف الصواب عن كل شيء‬
‫ويملك حلو ل ً جاهزة لكل المشاكل ، لكنه ل يقيس معارفه وحلوله طب ق ًا‬
     ‫لمناهج المنطق بل طب ق ًا لمناهج التاريخ ، إن ما حدث في الماضي هو‬
‫الصواب ، وما يحدث في الحاضر هو الخطأ ، لذا فد كانت حجة أهل مكة ضد‬
  ‫السلم لنهم ل يستطيعون قبول فكرة تدعوهم للكف عن عبادة ) آبائهم‬
      ‫الولين ( فقيمة أصنامهم ليست مستمدة من ) شكلها المنطقي ( بل من‬
                                       ‫امتدادها في الماضي إلى الوراء .‬

  ‫العلمة الثانية المجتمع الجاهل أي ض ًا يضع نفسه في مركز الرض ويترك‬
‫العالم يدور حوله مربوط العينين مثل ثور الساقية . إن هذه الصفة الحافلة‬
 ‫بالغرور والنزق تمثلت بوضوح صاعق في شكل الفكر الذي أنتجه المجتمع‬
  ‫اليهودي في أكثر عصوره انحطا ط ًا وإيغا ل ً في الجهل ، لقد وصل المر إذ‬
      ‫ذاك إلى أن اعتبر الحبار البسطاء مجتمعه البسيط بمثابة )) شعب ا‬
      ‫المختار (( فيما ظل بقية العالم بالنسبة لهم مجرد همج وغرباء . تلك‬
‫الخارقة المثيرة للضحك التي لم يعان منها أحد قدر ما عانى منها ) شعب ا‬
                                                        ‫المختار ( نفسه !‬

 ‫العلمة الثالثة المجتمع الجاهل ل يتعامل بعملة المنطق بل بعملة الشعر ،‬
‫إنه ل يملك أفكا ر ًا معروضة للنقاش لن كل فكرة في حوزته مقدسة أو شبه‬
    ‫مقدسة أو ربع مقدسة على القل ، ولن هذا النوع من الفكر التليد ليس‬
     ‫معرو ض ًا للنقاش بل للطاعة فقط ، إن مجتمعات الزنوج والسكيمو هي‬
     ‫بالضبط أقل المجتمعات النسانية قبو ل ً لوسائل النقاش والجدل ، وهي‬
                             ‫بالذات أكثرها حاجة للبحث عن حلول عاجلة .‬

       ‫العلمة الرابعة المجتمع الجاهل ظاهرة مريضة وليس مجرد ظاهرة‬
    ‫مختلفة ، لذا فإن التعامل معه يبدو غال ب ًا لعبة قاسية وأحيا ن ًا أي ض ًا لعبة‬
   ‫مميتة ، لقد مات كثير من الرجال العظام على صلبان مجتمعاتهم البدائية‬
     ‫لنهم لم يدركوا الحد النهائي الذي يتوقفون عنده في آداء لعبتهم معه‬
   ‫وسوف يموت كثير من الرجال العظام على مزيد من الصلبان حتى يتعلم‬
 ‫المجتمع النساني أن يكبح جماع عصبيته وعقده النفسية ويرفض أن تجره‬
‫أمراضه إلى ارتكاب جرائم الصلب ، إن حفنة من الحبار استطاعوا أن يغروا‬
   ‫الشعب اليهودي يقتل المسيح ، وحفنة أخرى من رعاة مكة استطاعوا أن‬
  ‫يؤلبوا معظم قبائل الجزيرة العربية ضد النبي محمد – ص- لكن رد الفعل‬
 ‫عند الرسولين العظيمين لم يزد قط عن هذا الدعاء الحافل بالشفقة ) ربي‬
  ‫اغفر لقومي فإنهم ل يعملون ( . إنك ل تستطيع أن تعاقبه بأكثر من العمل‬
                          ‫على شفائه العاجل ، ذلك وحده هو العقاب الحقيقي .‬

                                                                ‫صادق النيهوم .‬

                                                                           ‫يتبع...‬

More Related Content

Viewers also liked

How to use of moodle
How to use of moodleHow to use of moodle
How to use of moodlehayate19996
 
Third index
Third indexThird index
Third indexezaz123
 
Visual Aid
Visual AidVisual Aid
Visual Aidcoshik26
 
PDF Scanning environment for startegic intervention for youth
PDF Scanning environment for startegic intervention for youthPDF Scanning environment for startegic intervention for youth
PDF Scanning environment for startegic intervention for youthMosharaf Hossain
 
Big Data: Movement, Warehousing, & Virtualization
Big Data: Movement, Warehousing, & VirtualizationBig Data: Movement, Warehousing, & Virtualization
Big Data: Movement, Warehousing, & Virtualizationtervela
 
19286 eae b39a-4e42-beeae9d8b3f22fc7
19286 eae b39a-4e42-beeae9d8b3f22fc719286 eae b39a-4e42-beeae9d8b3f22fc7
19286 eae b39a-4e42-beeae9d8b3f22fc7Carlos Carvalho
 
Samantha blum histo study guide 1
Samantha blum  histo study guide 1Samantha blum  histo study guide 1
Samantha blum histo study guide 1smblum2
 
Bildjuschkin: Selkenevää - eväitä seksuaalikasvatukseen ammatillisessa koulut...
Bildjuschkin: Selkenevää - eväitä seksuaalikasvatukseen ammatillisessa koulut...Bildjuschkin: Selkenevää - eväitä seksuaalikasvatukseen ammatillisessa koulut...
Bildjuschkin: Selkenevää - eväitä seksuaalikasvatukseen ammatillisessa koulut...Kouluterveyskysely
 
GMC Junior
GMC JuniorGMC Junior
GMC Juniorjshappo
 
Osszuk meg-amink-van-es-megoszthatjuk-amink-lesz
Osszuk meg-amink-van-es-megoszthatjuk-amink-leszOsszuk meg-amink-van-es-megoszthatjuk-amink-lesz
Osszuk meg-amink-van-es-megoszthatjuk-amink-leszEdit Ditte Szabó
 
Livestock, Land and the Changing Economy of Pastoralism
Livestock, Land and the Changing Economy of PastoralismLivestock, Land and the Changing Economy of Pastoralism
Livestock, Land and the Changing Economy of Pastoralismfutureagricultures
 

Viewers also liked (14)

How to use of moodle
How to use of moodleHow to use of moodle
How to use of moodle
 
Third index
Third indexThird index
Third index
 
Visual Aid
Visual AidVisual Aid
Visual Aid
 
PDF Scanning environment for startegic intervention for youth
PDF Scanning environment for startegic intervention for youthPDF Scanning environment for startegic intervention for youth
PDF Scanning environment for startegic intervention for youth
 
Big Data: Movement, Warehousing, & Virtualization
Big Data: Movement, Warehousing, & VirtualizationBig Data: Movement, Warehousing, & Virtualization
Big Data: Movement, Warehousing, & Virtualization
 
19286 eae b39a-4e42-beeae9d8b3f22fc7
19286 eae b39a-4e42-beeae9d8b3f22fc719286 eae b39a-4e42-beeae9d8b3f22fc7
19286 eae b39a-4e42-beeae9d8b3f22fc7
 
Samantha blum histo study guide 1
Samantha blum  histo study guide 1Samantha blum  histo study guide 1
Samantha blum histo study guide 1
 
68 avenue Gurgaon 7428424386
68 avenue Gurgaon 742842438668 avenue Gurgaon 7428424386
68 avenue Gurgaon 7428424386
 
Essential list 2
Essential list 2Essential list 2
Essential list 2
 
World I, Module I
World I, Module IWorld I, Module I
World I, Module I
 
Bildjuschkin: Selkenevää - eväitä seksuaalikasvatukseen ammatillisessa koulut...
Bildjuschkin: Selkenevää - eväitä seksuaalikasvatukseen ammatillisessa koulut...Bildjuschkin: Selkenevää - eväitä seksuaalikasvatukseen ammatillisessa koulut...
Bildjuschkin: Selkenevää - eväitä seksuaalikasvatukseen ammatillisessa koulut...
 
GMC Junior
GMC JuniorGMC Junior
GMC Junior
 
Osszuk meg-amink-van-es-megoszthatjuk-amink-lesz
Osszuk meg-amink-van-es-megoszthatjuk-amink-leszOsszuk meg-amink-van-es-megoszthatjuk-amink-lesz
Osszuk meg-amink-van-es-megoszthatjuk-amink-lesz
 
Livestock, Land and the Changing Economy of Pastoralism
Livestock, Land and the Changing Economy of PastoralismLivestock, Land and the Changing Economy of Pastoralism
Livestock, Land and the Changing Economy of Pastoralism
 

Recently uploaded

الكامل في اتفاق الصحابة والأئمة أن من لم يؤمن بمحمد رسول الله فهو كافر مشرك و...
الكامل في اتفاق الصحابة والأئمة أن من لم يؤمن بمحمد رسول الله فهو كافر مشرك و...الكامل في اتفاق الصحابة والأئمة أن من لم يؤمن بمحمد رسول الله فهو كافر مشرك و...
الكامل في اتفاق الصحابة والأئمة أن من لم يؤمن بمحمد رسول الله فهو كافر مشرك و...MaymonSalim
 
أنواع الحياة والاغراض الشعرية في العصر الجاهلي
أنواع الحياة والاغراض الشعرية في العصر الجاهليأنواع الحياة والاغراض الشعرية في العصر الجاهلي
أنواع الحياة والاغراض الشعرية في العصر الجاهليneamam383
 
الفعل الصحيح والفعل المعتل ونواعه لفيف نقص .ppt
الفعل الصحيح والفعل المعتل ونواعه لفيف نقص .pptالفعل الصحيح والفعل المعتل ونواعه لفيف نقص .ppt
الفعل الصحيح والفعل المعتل ونواعه لفيف نقص .pptNaeema18
 
DIGNITAS INFINITA - كرامة الإنسان. إعلان دائرة عقيدة الإيمان.pptx
DIGNITAS INFINITA - كرامة الإنسان. إعلان دائرة عقيدة الإيمان.pptxDIGNITAS INFINITA - كرامة الإنسان. إعلان دائرة عقيدة الإيمان.pptx
DIGNITAS INFINITA - كرامة الإنسان. إعلان دائرة عقيدة الإيمان.pptxMartin M Flynn
 
في قضية اللفظ والمعني والبعض من آراء العلماء
في قضية اللفظ والمعني والبعض من آراء العلماءفي قضية اللفظ والمعني والبعض من آراء العلماء
في قضية اللفظ والمعني والبعض من آراء العلماءneamam383
 
الكامل في إثبات أن حديث اذهبوا فأنتم الطلقاء حديث آحاد مختلف فيه بين ضعيف ومت...
الكامل في إثبات أن حديث اذهبوا فأنتم الطلقاء حديث آحاد مختلف فيه بين ضعيف ومت...الكامل في إثبات أن حديث اذهبوا فأنتم الطلقاء حديث آحاد مختلف فيه بين ضعيف ومت...
الكامل في إثبات أن حديث اذهبوا فأنتم الطلقاء حديث آحاد مختلف فيه بين ضعيف ومت...MaymonSalim
 
إسنــــاد الأفعال. إلى الضمائر.pptx
إسنــــاد الأفعال.    إلى الضمائر.pptxإسنــــاد الأفعال.    إلى الضمائر.pptx
إسنــــاد الأفعال. إلى الضمائر.pptxssusere01cf5
 
(بلال عبد المنعم شفيق-الفرقة الثالثة - شعبة عام لغة عربية - كلية التربية بقنا...
(بلال عبد المنعم شفيق-الفرقة الثالثة - شعبة عام لغة عربية - كلية التربية بقنا...(بلال عبد المنعم شفيق-الفرقة الثالثة - شعبة عام لغة عربية - كلية التربية بقنا...
(بلال عبد المنعم شفيق-الفرقة الثالثة - شعبة عام لغة عربية - كلية التربية بقنا...belalabdelmoniem1
 

Recently uploaded (8)

الكامل في اتفاق الصحابة والأئمة أن من لم يؤمن بمحمد رسول الله فهو كافر مشرك و...
الكامل في اتفاق الصحابة والأئمة أن من لم يؤمن بمحمد رسول الله فهو كافر مشرك و...الكامل في اتفاق الصحابة والأئمة أن من لم يؤمن بمحمد رسول الله فهو كافر مشرك و...
الكامل في اتفاق الصحابة والأئمة أن من لم يؤمن بمحمد رسول الله فهو كافر مشرك و...
 
أنواع الحياة والاغراض الشعرية في العصر الجاهلي
أنواع الحياة والاغراض الشعرية في العصر الجاهليأنواع الحياة والاغراض الشعرية في العصر الجاهلي
أنواع الحياة والاغراض الشعرية في العصر الجاهلي
 
الفعل الصحيح والفعل المعتل ونواعه لفيف نقص .ppt
الفعل الصحيح والفعل المعتل ونواعه لفيف نقص .pptالفعل الصحيح والفعل المعتل ونواعه لفيف نقص .ppt
الفعل الصحيح والفعل المعتل ونواعه لفيف نقص .ppt
 
DIGNITAS INFINITA - كرامة الإنسان. إعلان دائرة عقيدة الإيمان.pptx
DIGNITAS INFINITA - كرامة الإنسان. إعلان دائرة عقيدة الإيمان.pptxDIGNITAS INFINITA - كرامة الإنسان. إعلان دائرة عقيدة الإيمان.pptx
DIGNITAS INFINITA - كرامة الإنسان. إعلان دائرة عقيدة الإيمان.pptx
 
في قضية اللفظ والمعني والبعض من آراء العلماء
في قضية اللفظ والمعني والبعض من آراء العلماءفي قضية اللفظ والمعني والبعض من آراء العلماء
في قضية اللفظ والمعني والبعض من آراء العلماء
 
الكامل في إثبات أن حديث اذهبوا فأنتم الطلقاء حديث آحاد مختلف فيه بين ضعيف ومت...
الكامل في إثبات أن حديث اذهبوا فأنتم الطلقاء حديث آحاد مختلف فيه بين ضعيف ومت...الكامل في إثبات أن حديث اذهبوا فأنتم الطلقاء حديث آحاد مختلف فيه بين ضعيف ومت...
الكامل في إثبات أن حديث اذهبوا فأنتم الطلقاء حديث آحاد مختلف فيه بين ضعيف ومت...
 
إسنــــاد الأفعال. إلى الضمائر.pptx
إسنــــاد الأفعال.    إلى الضمائر.pptxإسنــــاد الأفعال.    إلى الضمائر.pptx
إسنــــاد الأفعال. إلى الضمائر.pptx
 
(بلال عبد المنعم شفيق-الفرقة الثالثة - شعبة عام لغة عربية - كلية التربية بقنا...
(بلال عبد المنعم شفيق-الفرقة الثالثة - شعبة عام لغة عربية - كلية التربية بقنا...(بلال عبد المنعم شفيق-الفرقة الثالثة - شعبة عام لغة عربية - كلية التربية بقنا...
(بلال عبد المنعم شفيق-الفرقة الثالثة - شعبة عام لغة عربية - كلية التربية بقنا...
 

وجهة نظر في مشكلة ملحة

  • 1. ‫العقل ال س ّليم في الجسم السليم..‬ ‫دعوة للمصارعة‬ ‫ي ُقال للمواطن الليبي أن مشاكل مجتمعنا تندرج تحت ثلث خانات . خانة‬ ‫للفقر وخانة للمرض وخانة للجهل ، و ي ُقال له أيضا أنك ما دمت قد عرفت‬ ‫مشاكلك إلى هذا الحد وعرفت مخبأها السري فلم تعد ثمة ما تحتاج إليه‬ ‫سوى أن تضع لها قليل من سم الفئران .‬ ‫أنا هنا ل أريد أن أقول للمواطن الليبي أن لعبة الخانات الثلث قد ل تعني‬ ‫شيئا في الواقع سوى أننا ل نعرف مشاكلنا ، أعني لقد حدث ذلك من قبل‬ ‫في حكاية العميان الذين جمعهم المهراجا في غرفة واحدة لكي يتعرفوا‬ ‫على فيله ، فتعرفوا على ك ل ّ شيء فيه إل أنه فيل . وإذا كان النقاش‬ ‫العاجي لم يستطع قط أن يضمن إقناع مواطننا بأية حقائق جديدة فإنه‬ ‫أيضا لن يزيد اقتناعه بأخطائه الحالية . إن المغامرة خالية من الخطر‬ ‫تقريبا .‬ ‫المشكلة تبدأ – كالعادة – من كلمة ) الجهل ( .‬ ‫فالموطن عندنا ل يسيء فهم هذه الكلمة المعقدة فحسب بل إنه في‬ ‫الواقع لم يفهمها قط في أي يوم من اليام ، لقد دخل الصطلح إلى‬ ‫قاموسنا المعاصر بمثابة ترجمة لكلمة ) الم ي ّة ( في لغات أخرى ورسخ في‬ ‫ذهن مواطننا بهذا المعنى الضيق وحده حتى أنه لم يعد يرى ثمة ما يدعوه‬ ‫إلى مراجعة هذا الخطأ .‬ ‫لكن الجهل ليس هو المية.. هذه بديهية غير مفاجئة جدا في الدراسات‬ ‫المعاصرة ، إنه ل يتمثل في المية إل بقدر ما يتمثل مرض السل في قليل‬ ‫من السعال ، وإذا قيل لك أن المرء قد يسعل للف سبب آخر غير إصابته‬ ‫بالسل ، فسوف ترى أن تشخيصك للمرض يبدو ساذجا إلى حد ل يليق بك..‬ ‫إن المنهج الحديث في دراسة المشكلة يسلك طريقا مختلفا ويوصي بتخطي‬ ‫لعبة الخانات الغامضة ليجاد زاوية الرؤية الصحيحة من مكان آخر ، والرؤية‬ ‫الصحيحة بسيطة إلى حد ل يصدق !‬ ‫إن الجهل ليس وحشا مختلفا عن الفقر أو المرض بل انه في الواقع‬ ‫) الترجمة الوحيدة الممكنة ( لمعنى هاتين الكلمتين معا . كل ما في المر أن‬ ‫الجهل ) فقر من الداخل ( .‬ ‫وإذا اتفقنا هنا على أن ) الفقر ( ل ينتهي بمجرد حصولك على كيس من‬
  • 2. ‫أوراق العملة ، بل ينتهي فقط إذا كانت أوراق العملة مقبولة في السوق‬ ‫وإذا اتفقنا على أن ) الثراء ( ل يقاس بما يملكه المرء بل بقيمة ما يملكه‬ ‫المرء..‬ ‫وإذا كنت ل تحب العناد لوجه ا فسوف ترى بنفسك أن الجهل أيضا ل ينتهي‬ ‫بمجرد قدرتك على القراءة في كتب المعرفة بل ينتهي فقط إذا عرفت حقا ،‬ ‫سواء عن طريق القراءة أو عن طريق المعايشة .‬ ‫والمشكلة بالضبط أن كل مخلوق يعتقد حازما أنه ) يعرف ( . أعني هذه‬ ‫طبيعة النكتة المريعة . فالجهل ل يملك سوى علج واحد اسمع المعرفة ،‬ ‫ولكن العارفين في أغلب الحيان هم بالذات السادة الجهلء .‬ ‫لقد قرر المام الغزالي هذه الحقيقة بصورة أفضل عندما قال منذ ألف عام‬ ‫) ما قارعت عالما إل غلبته وما قارعت جاه ل ً إل غلبني ( لكن الظاهرة غير‬ ‫المعقولة قادت في نهاية المطاف إلى إيجاد التفسير الصحيح لمشكلة‬ ‫الجهل بأسرها .‬ ‫حدث ذلك بعد أن بدأت الدراسات المعاصرة تشير باطراد إلى أن أمراض‬ ‫الجهل – التي تدعى عادة باسم التخلف الحضاري – ل تختلف في الواقع عن‬ ‫أية أمراض ) عقلية ( أخرى بل إنها في الغالب ل تقل عنها ضررا أيضا .‬ ‫فالجهل حالة غيبوبة تشبه إلى حد بعيد حالة الخدر الجزئي التي يعايشها‬ ‫المرء عندما يقع تحت طائلة العقار . إنها ل تبدو له غير طبيعية أو خاطئة‬ ‫ولكنها تبدو كذلك لمن يراقبه من النافذة .‬ ‫هذا الفرض الشجاع أدى في نهاية المطاف إلى اعتبار الجهل مرضا عاديا ل‬ ‫يختلف كثيرا – ول يقل أيضا – عن معظم أمراض سوء التغذية ، انه نتيجة‬ ‫عادية لما يناله المواطن في بيئته ، ليس من حيث كمية الطعام فقط بل من‬ ‫حيث قيمته الغذائية بالذات .‬ ‫وهنا بدأت سلسلة مشوقة من المفاجآت ، فقد استغرق العلماء وقتا قصيرا‬ ‫جدا قبل أن يتضح لهم أن تفسيرهم لمشكلة الجهل باعتبارها مرضا عاديا‬ ‫لم يكن التفسير الصحيح فحسب بل كان أيضا التفسير الصحيح الوحيد الذي‬ ‫يستطيع أن يشرح سلوك المصاب وثقته في جهله وإصراره على ادعاء‬ ‫المعرفة وتعلقه بحلوله المريضة إلى آخر رمق من حياته .‬ ‫إن ) المصاب ( ل يستطيع أن يفعل شيئا آخر لخمسة أسباب كاملة :‬ ‫السبب الول أن الجهل – مثل جميع المراض العقلية – مرض ل يستطيع‬ ‫المصاب أن يحدس أنه مصاب به إل بقدر ما يحدس النائم أنه نائم حقا .‬
  • 3. ‫السبب الثاني أن الجهل – مثل جميع المراض العقلية أيضا – منطق ذاتي‬ ‫يأتي من الداخل عن اقتناع كامل ويوفر بذلك حالة من ) السلم النفسي (‬ ‫التي ل تبدو مزيفة إل لمن ينظر إليها من الخارج ، لذا فإن عناد الجاهل ليس‬ ‫شيئا في الواقع سوى نوع من الدفاع عن ) سلمة النفس ( إنه ل يرفض‬ ‫حقائقك لنه يكره الحق لحساب الشيطان بل لنه ل يستطيع أن يترك عالمه‬ ‫ينهار فوق رأسه لحساب حقائقك ، إن ذلك يبدو بالنسبة له مجرد دعوة‬ ‫للمشي في جنازته .‬ ‫السبب الثالث أن الجهل – مثل جميع المراض العقلية – ل يسبب ألما‬ ‫للمصاب نفسه بقدر ما يسبب آلما كثيرة لمن يحبونه أو يحيطون به . لذا فإن‬ ‫إقناع ) المريض ( بالبحث عن علج ما يبدو دائما عم ل ً صعبا للغاية إن لم يكن‬ ‫مستحي ل ً . إنه ل يحس بحاجته إلى علج من أي نوع ما دام أص ل ً ل يحس‬ ‫باللم ، لكن المشكلة لم تبق قط بدون حل . لقد تكفلت الكوارث الجتماعية‬ ‫دائما بفرض العلج على المريض إذا التزم جانب العناد أطول مما ينبغي .‬ ‫السبب الرابع أن الجهل – مثل جميع المراض العقلية – يحقق رابطة متينة‬ ‫بين الفئات المصابة به بغض النظر عن اختلفاتها الجتماعية ويرصها جميعا‬ ‫صفا واحدا ضد العداء وراء الجدار ، في حالة استعداد دائمة للبدء في‬ ‫القتال . فإذا كانت الفئات صغيرة الحجم مثل الحزب النازي في بداية نشأته‬ ‫فإنها غالبا ل تستطيع أن تلحق ضررا ملموسا بمن يحيط بها وإذا أتيحت لها‬ ‫فرصة النمو مثل الحزب النازي أيضا بحيث صار في وسعها أن تضم القطاع‬ ‫العظم من القوة الكلية فإنها تثبت أقدامها في الرض وتنمو بل حساب في‬ ‫تربة غنية من القطاع الفكري السود ويصبح دمارها أمرا مستحي ل ً بدون‬ ‫وقوع الكارثة الجتماعية . ولكن الدمار لبد منه في نهاية المطاف . لقد أدى‬ ‫هذا القطاع الفكري ذات مرة إلى صلب المسيح بأيدي اليهود ، وأدى في‬ ‫مرة أخرى إلى وضع ادولف هتلر في مصاف المنقذين الكبار غير أن نتائجه‬ ‫كانت دائما خاطئة وكان التاريخ يصحح له هذه الخطاء بقلم مغموس في‬ ‫الدم .‬ ‫السبب الخامس أن الجهل – مثل جميع المراض العقلية – ل يمكن علجه‬ ‫من الخارج تحت أية ظروف ، لن أول مشاكل المريض أنه ل يعترف بوجود‬ ‫شيء مجد في الخارج . فالمرء يذهب إلى طبيب السنان عندما يؤلمه‬ ‫ضرسه لنه يؤمن مقدما بأن ذلك الطبيب يعرف أكثر منه فيما يخص السنان‬ ‫وأنه يستطيع أن يحرره من الوجع عن طريق استعمال ) الوصفة الصحيحة (‬ ‫لكن اللعبة مختلفة كليا بالنسبة للمواطن الذي ل يؤلمه ضرسه بل يؤلمه‬ ‫عقله الخرافي وحده ، إنه في الدرجة الولى ل يحس بالوجع وفي الدرجة‬ ‫الثانية ل يرى ثمة حاجة إلى أن يزور معلم الجغرافيا لكي يثبت له أن الرض‬ ‫كروية مادام يعرف أنها ليست كروية على أي حال بل مسطحة ومحمولة‬ ‫على قرن ثور ، إن المشكلة هنا تخص نوع المعرفة غير العملية التي ل‬ ‫يستطيع المصاب أن يعترف لنفسه بأنه يحتاج إليها ، فالمرء ل يسقط على‬
  • 4. ‫رأسه في الفضاء إذا أصر على العتقاد بأن الرض طبق يحمله الثور إلى‬ ‫الكوشة . ومادام المرء ل يسقط على رأسه ، بل يمشي مثلك على قدميه‬ ‫الجاهلتين فمن الصعب أن يخطر له ذات مرة أن ) يصحح ( معلوماته لمجرد‬ ‫الرغبة في) المعرفة المجردة ( لذاتها إنه مرتبط عقليا بالنتائج العملية‬ ‫للمعرفة ، وليس مما يجديك نفعا أن تحاول إقناعه بأن قبول كروية الرض‬ ‫سوف يساعده على إحراز نتائج عملية أكثر مما ينتظر .‬ ‫فالمشكلة بالنسبة له تقف دائما عند هذا السؤال البسيط : ما دمنا‬ ‫مستريحين على الرض ، ومادامت نظرية الطبق والثور ل تجعلنا نسقط على‬ ‫رؤوسنا في الفضاء فما الذي يدعوك إلى تشويش أفكارنا بالوهام‬ ‫النظرية ؟‬ ‫إذ ذاك عليك أن تلتزم الصمت أو تخنقه بأصابعك أو تذهب إلى القمر وترسل‬ ‫له صورة أمه الرض خالية من صورة والده الثور . إن العلم ل يعرف علجا‬ ‫آخر حتى الن .‬ ‫هذه التحديدات الخمسة لم تؤد بالطبع إلى القضاء على الجهل في أي‬ ‫مكان ولكنها أدت إلى فهمه فهما مرضيا وتشخيصه باعتباره مرضا عاديا‬ ‫يأتي من البيئة المحيطة بالفرد كما تأتي بقية المراض ، ويمكن مقارنته في‬ ‫يسر بأمراض سوء التغذية التي تنجم عن نقص في قيمة الغذاء وكميته معا‬ ‫، لكن الفرق الحاسم بين المواطن المصاب ) بنقص المعرفة ( والمواطن‬ ‫المصاب ) بنقص التغذية ( أن أحدهما يسعل طوال الليل ويعاني من فقر‬ ‫الدم والسل ، والخر يركض مثل الحصان ويحمل عصاه معه لكي يكسر‬ ‫رأسك إذا قررت أن تلعب معه دور الطبيب ، إنه المصارع السخيف الذي‬ ‫خدعنا منذ ألف عام بدعايته المغرضة عندما أقنعنا بأن العقل السليم في‬ ‫الجسم السليم . فالواقع أنه لو صدقنا هذه الخرافة لطالبنا غدا بأن يوضع‬ ‫مصير العالم في أيدي الحمالين.. لكننا ل نصدقها لحسن الحظ لننا نعرف‬ ‫أن الجسم السليم مجرد نتيجة مرضية واحدة من ألف نتيجة أخرى للعقل‬ ‫السليم ولن ) المصارعة ( في العالم ليست مجرد مباراة مسلية بين رجل‬ ‫سمين ورجل سمين آخر بل سباقا مرهقا بين العقول الواعية القادرة على‬ ‫احتمال الصراع .‬ ‫وأسوأ ما في المر أنه سباق خال من الروح الرياضية وأن المنتصر ل يكتفي‬ ‫بإلقاء خصمه على الرض بل يفضل دائما أن يسلخ فروة رأسه ويسرق‬ ‫امرأته ويمحو أثره بالممحاة . إنه صراع البقاء الذي يعتقد معظم الناس‬ ‫أنهم يعرفون عنه ك ل ّ شيء ، وهم يجهلون في الغالب أبسط أسلحته . ذلك‬ ‫الخطأ المميت الذي يرتكبه الجاهل مرتين إذا لم يفقد رأسه في المرة‬ ‫الولى .‬ ‫صادق النيهوم‬
  • 5. ‫2‬ ‫الجهل مثل المعرفة..‬ ‫قابل للزيادة بل حدود‬ ‫[ الدراسة التي أدت إلى تفهم ظاهرة ) الجهل ( باعتبارها حالة عقلية معينة‬ ‫تشبه ظاهرة المرض أدت أيضا إلى تسليط أضواء جديدة على شخصية‬ ‫) الجاهل ( نفسه وشرح سلوكه المعقد وتفهم متاعبه الحقيقية الكامنة وراء‬ ‫قناع الرضا . لكن المرء ل بد أن يلحظ هنا أن تشخيص المرض على هذا‬ ‫النحو قد وضع كلمة ) الجهل ( في مكان مختلف كلية عن مكانها القديم . إنها‬ ‫لم تعد تعني ) عكس المعرفة ( بل عكس الصحة العقلية ، والفرق هنا ليس‬ ‫فرقا فوق السطح فقط .‬ ‫[ فليس ثمة أحد في العالم سليم الجسم مائة في المائة ، هذه المعجزة لم‬ ‫تحدث حتى الن وليس من المتوقع أن تحدث أيضا قبل مضي زمن طويل إن‬ ‫المرء يملك دائما نصيبه من المتاعب الصحية ولكنه ل يدعو نفسه مريضا إل‬ ‫إذا أقعدته متاعبه عن أداء شؤؤونه الحياتية الملحة . ذلك بالضبط المفهوم‬ ‫المعاصر لمعنى الجهل .‬ ‫فليس ثمة أحد في العالم يعرف الصواب عن كل شيء مائة في المائة ،‬ ‫ذلك أيضا لم يحدث حتى الن وليس من المتوقع أن يحدث في المليون عام‬ ‫القادم . ولكن المرء ل بد أن يعرف ) مقدارا ( معينا من الشياء الصائبة لكي‬ ‫يتمكن من تدبير شؤون حياته اليومية ، وبمدى كفاية هذا المقدار وفعاليته‬ ‫في مواجهة مشاكل حياتنا تقاس ظاهرة الجهل والمعرفة .‬ ‫إننا ل نقاتل طواحين الهواء . ول نخلع اللقاب من باب العبث اللفظي لكي‬ ‫ندعو مواطنا ما باسم الجاهل أو العالم وليس مما يجدينا أن نضيع وقتنا‬ ‫في حلب النجوم .‬ ‫إننا نعيش هنا فوق الرض ، ونستمد منها قوت أطفالنا ونستمد منها أيضا‬ ‫مقاييسنا للجهل والمعرفة على حد سواء ، الحياة وحدها هي مقياسنا‬ ‫الصحيح ، فإذا كان بوسعك أن تفيدها وتجعلها أكثر بهجة فأنت تعرف ، وإذا‬ ‫لم يكن بوسعك أن تفعل من أجلنا شيئا سوى أن تزيد متاعبنا وتشوه‬ ‫طموحنا فأنت تجهل ذلك سواء كنت تحسن القراءة أو ل تحسنها ، سواء كنت‬ ‫تلبس جبة درويش أو جلد نمر ، إن المظهر ل يخص مقاييسنا ولكنه أيضا ل‬ ‫يستطيع أن يخدعها بمقدار ذرة واحدة .‬
  • 6. ‫هذا الخط الفاصل بين العارف وغير العارف وضع ظاهرة الجهل في مكانها‬ ‫الصحيح وعراها من معظم أقنعتها الخادعة وأعطاها المفهوم الحقيقي‬ ‫القادر على اكتشافها في كل مكان ، إن شعراء الزنوج يستعملون هذه‬ ‫الصيغة في مخاطبة المريكيين البيض باعتبارهم قطيعا من الثيران‬ ‫الجهنمية الجاهلة رغم أن نسبة التعليم بين البيض تقارب الحد النهائي ،‬ ‫وكذلك استعملها ) رونبرج ( عندما قال عن متاعب بلده الحالية : السويد لم‬ ‫ترفع نسبة التعليم إلى مائة في المائة ولكنها رفعت نسبة ق ر ّاء المجلت‬ ‫الجنسية ، إن القدرة على القراءة لم تعد تعني القضاء على الجهل في‬ ‫القاموس المعاصر ، ولعل المواطن الليبي سيحس بالسلم أكثر إذا قيل له‬ ‫الن إن الدراسات المعاصرة لم تعد تعتبره أكثر جهل من المواطن الغربي‬ ‫أو الشرقي إنما تضعهما معا تحت مسطرة واحدة تدعى بفهم ظاهرة الحياة‬ ‫فهما صحيحا والمواطن القل معرفة هو الذي يبدو أقصر قامة بالنسبة‬ ‫للمسطرة ، إن المقياس لم يعد لعبة مظاهر تخص تسريحة الشعر وطول‬ ‫الميني وشكل أحمر الشفاه ولون العينين أو الوشمة أو الجربي أو‬ ‫العمامة ، هذه اللعبة ماتت وسوف يموت اللعبون ، فالمقياس الن يخص‬ ‫الجوهر وحده ، يخص قدرتك أن تجعل حياتك وحياة الخرين انتصارا شريفا‬ ‫على الموت أو هزيمة مهينة أمامه في الجولة الولى ، إن الحياة ل تملك‬ ‫عدوا آخر .‬ ‫لكن الجاهل يملك أعداء تحت كل حجر .‬ ‫إنه يعاني من هذا الوهم لنه ل يعرف شكل عدوه الحقيقي ، ذلك يمكن أن‬ ‫يحدث لك أيضا إذا اتصل بك أحد ما غدا وقال لك في الهاتف بلهجة ليبية‬ ‫صميمة انه يزمع أن يكسر رأسك .‬ ‫[ إن كل مواطن في المدينة سيصبح عدوك في غمضة وكل مواطن سيبدو لك‬ ‫بمثاية قاتل مجنون يوجه إليك سكينه في الخفاء ، وسوف تعيش هذا‬ ‫الكابوس حتى تعرف عدوك بالضبط أو تمزق قميصك الوحيد . إن الجاهل‬ ‫يعيش هذا الكابوس من المهد إلى اللحد .‬ ‫ذلك يمكن أن يدعوك إلى الرثاء له ، فالمريض ليس مذنبا بل ضحية ولكن‬ ‫مشكلة الجاهل أنه يبادر إلى كرهك بمجرد أن يكتشف أنك ترثي له لنذلك‬ ‫بالضبط ما يعني لديه غاية الهانة ، هذه الشخصية المريضة ليست أسطورة‬ ‫، وليست أيضا صناعة محلية في ليبيا وحدها أو في الدول النامية وحدها ،‬ ‫إنها موجودة في كل مكان ، أعني في ليبيا وفي السويد أيضا بدرجة واحدة ،‬ ‫وتتكلم كل اللغات وتلبس كل الزياء وتنط على كل الحبال لكنها ليست‬ ‫خافية على مناهجنا المعاصرة ، إننا نعرف كل شيء عنها ونستطيع أن‬ ‫نكتشفها بيسر سواء كانت ملفوفة في الجربي أو نصف عارية على رصيف‬
  • 7. ‫سان باول في هامبورج ونستطيع أيضا أن نضع إصبعنا فوقها – مهما اختارت‬ ‫لنفسها مكانا عاليا – وننزع قناعها أمام المواطنين باعتبارها ) قنبلة زمنية قد‬ ‫ل تنفجر ولكنها على أي حال معدة للنفجار فقط ( .‬ ‫نحن ل نفعل ذلك اعتمادا على الفراسة أو قراءة الفنجان بل اعتمادا على‬ ‫مقاييس علمية أكثر دقة من المسطرة والجاهل ل يستطيع أن يخدع مقياسنا‬ ‫إل بمقدار ما يستطيع رطل البصل أن يخدع الميزان ، إننا نعرفه بخمس‬ ‫علمات تجارية مسجلة باسمه .‬ ‫العلمة الولى أنه يغرف الصواب عن كل شيء ، والشياء الصغيرة التي ل‬ ‫يعرف عنها الواب يعلقها في عنق إله الرعد ، ذلك من شأنه أن يدعوك إلى‬ ‫أن تتذكر ) ساحر القرية ( في حضارات الزنوج ، أعني العجوز الجهنمي الذي‬ ‫يزين رأسه بالقرون ويحل للزنوج البؤساء كل مشاكلهم بالرقص فإذا مرض‬ ‫أحدهم بالحمى أعطاه بعض العشاب ، فإذا لم تشفه العشاب يركله في‬ ‫ظهره ويخبره بأن ) إله الرعد النحاسي ( يريده أن يموت . إن الجاهل ل‬ ‫يحتاج دائما إلى القرون ول يحتاج أيضا إلى أن يظهر فقط بهذا المظهر‬ ‫الواضح ، إنه أحيانا يجلس في مكتبه ويكتب لك بقلمه الذهبي خطة كاملة‬ ‫لحياتك أنت وحياة أطفالك ، ولكنه دائما يحمل العلمة التجارية المسجلة‬ ‫باسمه ، إنه يعرف كل شيء بالتفصيل ، ويعرف يالذات ) الصواب وحده (‬ ‫على القل بالنسبة لعقله المصاب .‬ ‫العلمة الثانية أنه يقف دائما عند محور الرض والدنيا تدور حوله ، كل شيء‬ ‫يتحرك بالنسبة له أو يقف بالنسبة له وحده ، لنه هو المركز الحقيقي . هو‬ ‫) العالم ( كما ينبغي للعالم أن يكون ، إنه متسامح وشريف وعفيف وطاهر‬ ‫الذيل مادام ذلك كله يستمد معناه من وجوده في مركز الرض ، إنه يموت‬ ‫من أجل شرف امرأته لكنه أيضا يسطو على امرأة عدوه بضمير شبه نظيف .‬ ‫والمرء ل يجوز أن يتوقع ظهور هذه الشخصية في مظهر واضح إلى هذا‬ ‫الحد تحت كل الظروف ، إن اللعبة أكثر تعقيدا بالطبع ، فدرجة الصابة‬ ‫بالمرض تتفاوت بين الناس كما تتفاوت بصمات أصابعهم لكن القاسم‬ ‫المشترك النهائي أن ) الجاهل ( ل يستطيع أن يتنازل عن عرشه في مركز‬ ‫العالم دون أن يفقد جهله ، لنه إذ ذاك يرى الحقيقة ويرى نسبية الشياء ،‬ ‫وإذا قدر للعمى أن يرى فإنه ل بد أن يفقد عماه .‬ ‫العلمة الثالثة أن الحاهل ل يبيع بضاعته بالمنطق بل بالشعر وحده ، إنه ل‬ ‫يقنعك بفكرته بل يغريك بها ، وإذا رفضت إغراءه يلجأ إلى ) تهديدك ( وإذا‬ ‫رفضت تهديده انقطعت علقته بك عند هذا الحد ، إنه ل يجيد استعمال‬ ‫الرباط الفكري ول يعرف كيف يحشر يده داخل دماغك لكي يقنعك بحجته‬ ‫لن هذه المعجزة ل تتم بدون ) القناع المنطقي ( ولن القناع المنطقي‬
  • 8. ‫آخر بضاعة في حانوته المعبأ بالشعار . إن الناس يقيسون المسافات بينهم‬ ‫عادة بالميال أعني بمقدار بعد أحدهما عن الخر ، ولكن هذا المقياس في‬ ‫الواقع رديء إلى حد ل يحتمل ، إن المسافات بين البشر ل بد أن تقاس‬ ‫أحيانا بالسنين الضوئية . فالمشكلة ل تخص الفضاء الخارجي بال اللقاء‬ ‫العقلي وحده ، إنك تجلس أحيانا بجانب جارك وتحس أنك بعيد عنه بمسيرة‬ ‫ألف عام ، وتتعرف أحيانا على صديق بعيد وتحمله معك في صدرك ، لن‬ ‫المسافة ل وجود لها داخل هذه البعاد العقلية ، إن عالم النسان غير‬ ‫خاضع لقيود المادة ، ولكن مشكلة ) الجاهل ( أنه ل يعرف طريقا يصل به‬ ‫إلى عقلك سوى أن يشدك من ذيلك ، أعني أن يستميل مشاعرك بالغراء أو‬ ‫يشلها بالخوف . فإذا أثب ت َ له أنك ل تملك ذي ل ً وأنه ل يستطيع أن يعبر‬ ‫أبعادك العقلية بحماره العرج ، فإنه عادة ينفض يديه منك بأن يقطع رأسك‬ ‫أو يكرهك في الخفاء . إن الجاهل ل يستطيع أن يسلك طريق النقاش‬ ‫المنطقي دون أن يفقد جهله ، أعني يموت جائعا ويمشي في جنازته ويتقبل‬ ‫تهاني المعزين .‬ ‫العلمة الرابعة أن الجاهل مثل ساعة مليئة بالوساخ – تشير عقاربها عادة‬ ‫إلى منتصف الليل فيما يتناول الناس إفطارهم في الصباح – إنه يعيش‬ ‫متأخرا بضع سنوات وأحيانا أيضا بضعة قرون دون أن يهمه بالطبع أن‬ ‫العالم من حوله ل يتحرك طبقا لتوقيته الرديء ، إنه شبح من مذبحة‬ ‫الماضي وراء قناع مواطن معاصر . جزيرة تائهة أو قارة بأسرها تائهة‬ ‫تتسكع في عصر منقرض وتراقب عصرنا بازدراء مستعدة لن تعلق في‬ ‫عنقه أية تهمة تخطر ببالها بمجرد أن يتجرأ على إبداء شخصيته المختلفة ،‬ ‫إن الجاهل حارس مقبرة غير مرئية .‬ ‫يحصل على ) ثروته ( الفكرية بطريق الميراث ، ويضع كرسيه عند ناصية‬ ‫الزقاق ويحرس ) أملكه ( سواء كانت بيتا واحدا أو عشرة بيوت أو عشر‬ ‫وصايا ، ويدق عنقك بعصاه الخيزران إذا رأى فيك ثمة ما يهدد ثروته‬ ‫بالضياع ، ويتهمك طبعا بأية تهمة تخطر في رأسه العجيب من فساد الخلق‬ ‫والتفسخ إلى قلة الحياء .‬ ‫مقياسه الوحيد ليجاد الخطأ من الصواب أن الصواب هو ما فعله جده‬ ‫والخطأ هو ما يفعله أبناء جيله وأسوأ ما في المر أن مقياسه الرديء ليس‬ ‫رديئا فحسب بل انه عادة نصف ) مجيد ( إنك ل تستطيع أن ترفض مقاييس‬ ‫الرجل الجاهل دون أن يتهمك بالخروج عن التقاليد الحميدة والعادات‬ ‫المجيدة لن هذه العقوبة بالضبط هي سلحه العقلي الوحيد .‬ ‫العلمة الخامسة أن الجاهل رجل مريض وليس رج ل ً يتظاهر بالمرض ،‬ ‫ذلك يعني أنه ليس ممث ل ً يفضل أن يؤدي أمامك دورا ما كما يحدث عادة‬ ‫بالنسبة للمراهقين . فالتلميذ المراهق قد يسبب لك كثيرا من المتاعب‬ ‫لمجرد رغبته البريئة في أداء دور ) الفتوة ( أو اللص الظريف ولكن متاعبه‬
  • 9. ‫كلها مجرد لعبة خالية كاية من صفات القتناع المنطقي ، أما بالنسبة للرجل‬ ‫الجاهل فإن ) الدور ( حقيقي وجاد إلى حد ل يطاق ، إنه مقتنع بفكرته أيضا‬ ‫اقتناعا داخليا ل تردد فيه ، وليس بوسعك ، أو بوسع أية سلطة عقلية أخرى‬ ‫أن تزجره كما تزجر الطفل أو تقرص له أذنيه ، إن عليك أن تعامله بمثابة‬ ‫مخلوق عاقل مريض ، وعليك أن تتصرف بثبات إذا اكتشفت في لحظة ما أنه‬ ‫بدوره يعاملك أيضا باعتبارك ) مواطن مسكين يستحق الهداية ( فاللعبة‬ ‫نسبية حقا في نهاية المطاف ، والمرء لبد أن يفهم بطريقة ما أن السم قد‬ ‫يبدو بضاعة غير مرغوب فيها لكنه ليس كذلك بالنسبة للعقرب .‬ ‫هذه علماته الواضحة ، هذه آثار أقدامه الجاهلة على كل دروب العالم ، إن‬ ‫الجاهل لم يعد سرا خاصا لتركيبة ما ، ولك يعد بوسعه أن يدس رأسه في‬ ‫الزحام أو يختفي وراء قناع القراءة والفصاحة والشطارة اللفظية ، إنك‬ ‫تستطيع أن تحشره تحت هذه المسطرة وتحدد له بالضبط ) طول ( جهله في‬ ‫أي وقت ، فالمقياس واضح إلى حد كاف ، ثم إنه مرن وقادر على أن يضع‬ ‫كل مخلوق في مكانه الصحيح .‬ ‫ومادام بوسعنا أن نقيس المشكلة بالنسبة للفرد ، فإننا نحتاج إلى خطوة‬ ‫صغيرة واحدة لكي نقيسها أيضا بالنسبة للمليون .‬ ‫صادق النيهوم .‬ ‫يتبع..‬ ‫3‬ ‫الضعيف يموت.. أو يربي شن ب ًا..‬ ‫الصورة التي تم تحديد أبعادها هنا بالنسبة لشخصية المواطن الجاهل ل‬ ‫ينقصها شيء من ملمح ) المجتمع ( الجاهل بأسره ، إن المجموع بالطبع‬ ‫هو دائ م ًا حاصل جمع الجزاء والمرء يستطيع بيسر أن يرسم في ذهنه‬ ‫صورة تطابق الصل لقطيع من الحصنة البرية مادام يعرف شكل حصان‬ ‫بري واحد ، لكن عملية الجمع تحتاج إلى مهارة عقلية خاصة .‬ ‫فالطفل يتعلم في حصة الحساب أن تفاحة زائد تفاحة لبد أن تساوي‬ ‫تفاحتين ، لكنه غال ب ًا يحتاج إلى سنوات طويلة من ممارسة الواقع لكي‬ ‫يتعلم أن مائة طوبة زائد مائة طوبة ل تساوي مائتين بل تساوي بي ت ًا جاه ز ًا‬ ‫للسكن ، إننا ل نجمع الشياء لكي نكومها عب ث ًا في كوم واحد بل لكي نؤدي‬ ‫بها غر ض ًا حيات ي ًا خا ص ًا ، ومن الخطأ أن نتصور بعد ذلك أن الحياة نفسها ل‬
  • 10. ‫تفهم مثلنا في تأدية الغراض .‬ ‫إن عمليات الجمع البسيطة ل تحدث في غير مدارسنا الكثر بساطة أما ما‬ ‫يجري في الواقع فإنه عادة يتجاوز حد الجمع إلى إيجاد ) حالة المجموع (‬ ‫نفسها ، ذلك يعني أننا ل نحصي قطرات المطر فوق قميصك ول يهمنا‬ ‫عددها أي ض ًا بل يهمنا فقط أن قميصك مبلول ، وإذا بذلت محاولة أمينة لفهم‬ ‫هذا المثال في شكله البسيط فسوف تفهم أي ض ًا ما تعنيه الدراسات‬ ‫المعاصرة عندما تصر على أن ) المجتمع الجاهل ( ليس قطي ع ًا من‬ ‫المواطنين الجهلء بل ) مخاو ط ًا معق د ًا ( لحالت عقلية متبانية تتجمع عند‬ ‫مستويات مختلفة لتصنع شك ل ً نهائ ي ًا واح د ًا .‬ ‫إن النقطة الهامة التي أشير إليها هنا للمرة الثانية تتمثل في اعتبار الجهل‬ ‫نقي ض ًا ) للصحة العقلية ( وليس للمعرفة ، فالجاهل ليس دما غ ًا أبيض‬ ‫ممسو ح ًا ل يضم في داخله سوى الفراغ بل دماغ مليء حتى حافته بأشكال‬ ‫خاصة من المعارف الخاطئة التي ل تختلف في طبيعتها النهائية عن طبيعة‬ ‫المرض الجسماني نفسه ، أي غير ذات فائدة بالنسبة لحياتنا ، وإذا كانت‬ ‫هذه الفكرة تبدو غامضة بطريقة ما ، فأنا أستطيع أن ألفت نظركم إلى‬ ‫مثال أكثر وضو ح ًا..‬ ‫إن الجسد المريض ل يعني قط أن ) كل خلية ( فيه مصابة بالمرض بل يعني‬ ‫دائ م ًا أن عد د ًا كاف ي ًا من خلياه قد تعرضت للصابة ، والخلية المريضة‬ ‫نفسها ل تعني بدورها أنها ) خلية عاطلة ( بل تعني في الواقع أنها خلية‬ ‫نشطة في التجاه الخاطئ . ذلك بالضبط ما يحدث في تفهم مشكلة الجهل .‬ ‫فالمجتمع الجاهل ل يحتاج إلى أن يضم المواطنين الجهلء فقط ولكنه‬ ‫يحتاج إلى أن يضم منهم عد د ًا كاف ي ًا لكي يتعرض للمرض ، والمواطن‬ ‫الجاهل ل يعني أنه ) المواطن غير الفعال ( بل يعني المواطن الفعال في‬ ‫التجاه الخاطئ كما تنشط خلية السرطان في تحقيق مزيد من المرض ، إن‬ ‫الصحة العقلية هي المقياس الوحيد المعتمد في تقدير هذه المشكلة ، كما‬ ‫أن الصحة الجسدية هي المقياس الوحيد المعتمد في تقدير مدى المرض ،‬ ‫فالطبيب ل يستطيع أن يعتبرك مري ض ًا حتى تشلك حالتك الصحية عن‬ ‫ممارسة نشاطك المطلوب ، والدارس المعاصر ل يعتبرك جاه ل ً أي ض ًا إل إذا‬ ‫اكتشف أن مستوياتك العقلية عاجزة عن مساعدتك في ممارسة ذلك‬ ‫النشاط .‬ ‫إن تعريف الجهل باعتباره نقي ض ًا للمعرفة موضة قديمة انتهى أمرها كما‬ ‫انتهى أمر ) النطاسين ( الذين تعودوا أن يعتبروا المرض علمة على غضب‬ ‫إله الرعد ، فالواقع أن كلمة المعرفة ليست فقط أسطورة رديئة مثل‬ ‫أسطورة إله الرعد نفسه ، بل أي ض ًا إنها لعبة خادعة تشدك بعي د ًا عن التجاه‬ ‫الصحيح .‬
  • 11. ‫فليس ثمة شيء مجرد اسمه المعرفة كما أنه ليس ثمة شيء مجرد اسمه‬ ‫الصحة ، إن كل ما نملكه في عالمنا حالت متباينة لنواع من المعرفة‬ ‫وأنواع من الصحة التي نقيسها دائ م ًا بمقياس واحد اسمه الحياة الكثر‬ ‫فعالية أو الحياة القل فعالية ، ونحن ننطلق من هذه النقطة وحدها في‬ ‫تعرية شخصية المواطن الجاهل ، وننطلق منها أي ض ًا في تفهم شكل‬ ‫مجتمعه موقنين بثقة من أن الظاهرة – مثل ظاهرة الرعد بالضبط – ليست‬ ‫مستعصية على الفهم إلى حد يتطلب البحث عن أسطورة إله الرعد النحاسي‬ ‫، إننا نعرف طري ق ًا أقرب للوصول إلى الحل .‬ ‫هذا الطريق يبدأ في الواقع بمثابة حكاية نصف مشوقة ، إنه يدعو إلى أن‬ ‫تتصور سفينة تبحر في وسط المحيط وتضم شع ب ًا كام ل ً بمثابة بحارة‬ ‫ويدعوك إلى أن تتابع أحداث الرحلة عن كثب ملتز م ًا جانب الحياد ، إن أي‬ ‫مراقب مثلك سيرى تفاصيل الموقف في خمس نقاط محددة :‬ ‫النقطة الولى أن السفينة قد تطفو فوق الماء بموجب قانون طبيعي لكنها‬ ‫تبحر في اتجاه الشرق أو الغرب بموجب إرادة البحارة ، ذلك يعني أننا قد ل‬ ‫نملك فرصة في خلق حياتنا لكننا نملك كل شيء فيما يخص قيادتها وإذا‬ ‫خطر لنا أن ندير دفتها في اتجاه الرف المرجاني فإننا غال ب ًا نستطيع أن‬ ‫نغرقها ونغرق معها .‬ ‫النقطة الثانية أن السفينة لن تبحر في التجاه القرب إلى الهدف بل ستبحر‬ ‫في التجاه الذي يعتقد البحارة أنه أقرب إلى الهدف ، وإذا كان البحارة –‬ ‫مثل كولمبس مث ل ً – ل يعرفون خطة السير بالضبط فإنهم عادة يخسرون‬ ‫كثي ر ًا من وقتهم في الدوران والنحناء .‬ ‫النقطة الثالثة أن سرعة السفينة لن تبدو عالية أو بطيئة إل بالنسبة لمن‬ ‫يراقبها من الخارج واض ع ًا في ذهنه مسافة الطريق والمعدل المطلوب‬ ‫للسرعة ، أما بالنسبة لهل المركب الذين ل يملكون نفس المعلومات فإن‬ ‫المشكلة بأسرها ل داعي لها ، إن المركب تسير ، وتسير أي ض ًا في التجاه‬ ‫المتفق عليه وكل شبر تتركه ورائها يعتبر ) تقد م ًا ( ذلك كل ما في المر .‬ ‫النقطة الرابعة أن قدرة السفينة على مواجهة متاعب الرحلة ل تتوقف فقط‬ ‫على متانة بنائها بل أي ض ًا على نوع الحلول التي يختارها البحارة . إن‬ ‫مجموعة من الرجال عديمي المعرفة بسلوك البحر يستطيعون أن يتسيبوا‬ ‫في إغراق مركبهم أكثر مما يتسبب في إغراقه طوربيد .‬ ‫النقطة الخامسة أن جهة الوصول ل تعني بالضرورة أنها الهدف النهائي‬ ‫الذي ل تستطيع السفينة أن تصل إلى هدف سواه بل تعني فقط أنها الجهة‬ ‫التي يعتقد البحارة لسبب أو لخر أنها تكفي بالنسبة لهم .‬
  • 12. ‫هذا المثال البسيط مجرد شكل مصغر لما يحدث في الواقع على مستوى‬ ‫المجتمع القوي أو المجتمع النساني بأسره ، إن عالمنا حصيلة مجموع‬ ‫أفراده ، ومعارفنا حصيلة مجموع معارف الفراد ، ومركبنا يسير طب ق ًا‬ ‫لخطتنا المتفق عليها ، والرحلة تبدو مضنية أو مبهجة طب ق ًا لطبيعة خطتنا‬ ‫قبل أي شيء آخر ، لذا فإنها عادة ل تبدو مضنية أو مبهجة بالنسبة لنا بل‬ ‫بالنسبة لمن يراقبها في الخارج .‬ ‫إن التطبيق العملي لهذه الحكاية الصغيرة يبدو على أرضية الواقع أكثر‬ ‫وضو ح ًا وقدرة على شرح مشاكلنا من الداخل ، فأنت ل بد أن ترى هنا انك ل‬ ‫تستطيع اعتبار أية مشكلة نعانيها في مجتمعنا مجرد نتيجة حمقاء لسلوك‬ ‫واحد منا لن ذلك الواحد بدوره مجرد نتيجة أخرى حمقاء ، إن المركب ل‬ ‫تغرق لن بحا ر ًا واح د ًا يرغب في إغراقها بل لن بقية البحارة مستعدون‬ ‫لقبول فكرته الخاطئة باعتبارها ) غاية في الصواب ( فإذا كان بوسعك أن‬ ‫تلتزم جانب التواضع إلى هذا الحد وتعترف لنفسك بأن الفرد وحده ل‬ ‫يستطيع في الواقع أن يحدث مشكلة أو يحل مشكلة دون وجود الستعداد‬ ‫الطبيعي داخل الكتلة ، فسوف ترى في نهاية المطاف أن متاعب الجهل‬ ‫التي تعانيها معظم الشعوب النامية ل تبدأ من الفراد الجهلء أو المثقفين‬ ‫بل تبدأ بمستوى ) الصواب ( المعترف به داخل المجموعة ، إن القرآن ينعت‬ ‫أهل مكة قبل السلم بالجهل ويدعوهم أي ض ًا باسم الجاهلية رغم أن نسبة‬ ‫التعليم بينهم كانت تزيد عن نسبة التعليم في مجتمع المسلمين لن‬ ‫المقياس ل علقة له بعدد العارفين وغير العارفين بل بنصيب المعرفة‬ ‫نفسها من الحق والصواب ، ولن النبي المي كان دلي ل ً قائ م ًا بذاته على أن‬ ‫المشكلة ل تخص القراءة والكتابة من بعيد أو قريب . المشكلة تخص‬ ‫مستوى الصحة العقلية التي تتوقف بدورها على حالة الخليا ونوع أمراضها‬ ‫ومدى إصابتها بالضبط ، والمرء يستطيع أن يبدي شكوكه في أية عملية جمع‬ ‫عاجية لكن الدلة سوف تغليه دائ م ًا لكي يقتنع في نهاية المطاف بأن عملية‬ ‫جمعنا البسيطة التي تقول إن مستوى الصحة العقلية في المجتمع حصيلة‬ ‫مجموعة معارف الفراد نتيجة غير قابلة للطعن ، إن كل إناء ينضح بما فيه .‬ ‫واللعبة بعد ذلك مريحة وخالية من الغموض ، إن المجتمع الجاهل ليس‬ ‫فقط ، مجرد أفراد جاهلين بل مجموعة أفكار غير فعالة ومجموعة حقائق‬ ‫نسبية قد ل تخلو من الزيف ، ومجموعة غير محدودة من الخطاء التي ل‬ ‫تبدو بمثابة أخطاء إل لمن يراقبها من الخارج ، إنه صورة ) مكبرة ج د ًا (‬ ‫لرجل جاهل واحد يقود مركبه في وسط المحيط .‬ ‫علماته التجارية هي نفس العلمات القديمة التي يلصقها الرجل على جميع‬ ‫منتجاته ومشاكله بالطبع هي نفس المشاكل لكنها ) مكبرة ( بضعة مليين‬ ‫من المرات .‬ ‫العلمة الولى أن المجتمع الجاهل أي ض ًا يعرف الصواب عن كل شيء‬
  • 13. ‫ويملك حلو ل ً جاهزة لكل المشاكل ، لكنه ل يقيس معارفه وحلوله طب ق ًا‬ ‫لمناهج المنطق بل طب ق ًا لمناهج التاريخ ، إن ما حدث في الماضي هو‬ ‫الصواب ، وما يحدث في الحاضر هو الخطأ ، لذا فد كانت حجة أهل مكة ضد‬ ‫السلم لنهم ل يستطيعون قبول فكرة تدعوهم للكف عن عبادة ) آبائهم‬ ‫الولين ( فقيمة أصنامهم ليست مستمدة من ) شكلها المنطقي ( بل من‬ ‫امتدادها في الماضي إلى الوراء .‬ ‫العلمة الثانية المجتمع الجاهل أي ض ًا يضع نفسه في مركز الرض ويترك‬ ‫العالم يدور حوله مربوط العينين مثل ثور الساقية . إن هذه الصفة الحافلة‬ ‫بالغرور والنزق تمثلت بوضوح صاعق في شكل الفكر الذي أنتجه المجتمع‬ ‫اليهودي في أكثر عصوره انحطا ط ًا وإيغا ل ً في الجهل ، لقد وصل المر إذ‬ ‫ذاك إلى أن اعتبر الحبار البسطاء مجتمعه البسيط بمثابة )) شعب ا‬ ‫المختار (( فيما ظل بقية العالم بالنسبة لهم مجرد همج وغرباء . تلك‬ ‫الخارقة المثيرة للضحك التي لم يعان منها أحد قدر ما عانى منها ) شعب ا‬ ‫المختار ( نفسه !‬ ‫العلمة الثالثة المجتمع الجاهل ل يتعامل بعملة المنطق بل بعملة الشعر ،‬ ‫إنه ل يملك أفكا ر ًا معروضة للنقاش لن كل فكرة في حوزته مقدسة أو شبه‬ ‫مقدسة أو ربع مقدسة على القل ، ولن هذا النوع من الفكر التليد ليس‬ ‫معرو ض ًا للنقاش بل للطاعة فقط ، إن مجتمعات الزنوج والسكيمو هي‬ ‫بالضبط أقل المجتمعات النسانية قبو ل ً لوسائل النقاش والجدل ، وهي‬ ‫بالذات أكثرها حاجة للبحث عن حلول عاجلة .‬ ‫العلمة الرابعة المجتمع الجاهل ظاهرة مريضة وليس مجرد ظاهرة‬ ‫مختلفة ، لذا فإن التعامل معه يبدو غال ب ًا لعبة قاسية وأحيا ن ًا أي ض ًا لعبة‬ ‫مميتة ، لقد مات كثير من الرجال العظام على صلبان مجتمعاتهم البدائية‬ ‫لنهم لم يدركوا الحد النهائي الذي يتوقفون عنده في آداء لعبتهم معه‬ ‫وسوف يموت كثير من الرجال العظام على مزيد من الصلبان حتى يتعلم‬ ‫المجتمع النساني أن يكبح جماع عصبيته وعقده النفسية ويرفض أن تجره‬ ‫أمراضه إلى ارتكاب جرائم الصلب ، إن حفنة من الحبار استطاعوا أن يغروا‬ ‫الشعب اليهودي يقتل المسيح ، وحفنة أخرى من رعاة مكة استطاعوا أن‬ ‫يؤلبوا معظم قبائل الجزيرة العربية ضد النبي محمد – ص- لكن رد الفعل‬ ‫عند الرسولين العظيمين لم يزد قط عن هذا الدعاء الحافل بالشفقة ) ربي‬ ‫اغفر لقومي فإنهم ل يعملون ( . إنك ل تستطيع أن تعاقبه بأكثر من العمل‬ ‫على شفائه العاجل ، ذلك وحده هو العقاب الحقيقي .‬ ‫صادق النيهوم .‬ ‫يتبع...‬